الثقافية - حمد الدريهم:
يرتجلون الكلام خلف المذياع، ليصفوا لحظات الفرح والحزن، ولتستقرّ بعض جملهم في الذاكرة التلفازية الشعبية، وليستعيدها بعضهم، بالرغم من مرور الزمن وتعاقب الأجيال، إعجابا بتلك الجملة الوصفية الرائعة التي قيلت أثناء تلك اللحظة؛ بل وفي الآونة الأخيرة أصبحت تلك الجمل تتحول إلى اقتباسات مكتوبة تنتشر بين الناس عبر وسائط الإعلام الجديد تماماكما اقتباسات كبار الأدباء... هل أصبح «التعليق» من الفنون الأدبية الجديدة المهملة، أوليس يشبه ذلك الخطيب أثناء ارتجاله للكلام، والروائي في الوصف؟ أم أن ما يصدح به ذلك المعلق مجرد كلام في الهواء الذي يتنفسه عشاق كرة القدم فقط..؟!
حالة معرفية
الناقد محمد العباس يرى أن التعليق الرياضي حالة معرفية العبارات والصرخات التي تخرج من أفواه المعلقين الرياضيين أثناء المباريات الرياضية ليست كلها مرتجلة. بل هي مصمّمة في وعي ومختبر المعلق الرياضي. أجل، المعلق الرياضي الذي يدرك بأن مشاهدة المباريات الرياضية بدون تعليق أشبه ما يكون بالتفرّج على فيلم صامت بلا إثارة ولا حماس، كما يدرك تماماً بأن التعليق الرياضي ليس مجرد لهاث كلامي وراء حركات اللاعبين والوصف السطحي لمجريات المباراة. بل هو فن وله مدارسه المتنوعة والمختلفة. كما أنه حالة معرفية، تكشف عن ثقافة المعلق ووعيه وحساسيته الأدبية وعصريته. حيث اعتمد كبار المعلقين الغربيين على الاندساس في مدرجات الجماهير واستعارة ما يهجسون به من تعليقات هي بمثابة الركائز لنص التعليق الرياضي. على هذا الأساس صار معظم المعلقين يقرأون في مختلف المجالات لتقديم وجبة معرفية فنية يمكن بها استكمال متعة المشاهدة. وهذا هوسر المفاضلة بين معلق وآخر. فهناك معلق مكتنز بالمعارف الرياضية واللارياضية يراهن على وعي المشاهد. مقابل معلق لا يمتلك سوى الانفعالات والحماسة الفارطة لاستدرار عواطف المشاهد لدرجة أنه يبالغ في هفواته اللسانية. وهناك المعلق العاشق الذي يجمع ما بين المعرفة والانفعالية، لرفع مستوى التشويق وتحويل ما يتلفظه من عبارات إلى نص أدبي. العبارات الأدبية التي تتخلّل نص المعلق ليست بالضرورة ناتجة عن ذات قارئة ومحبّة للأدب. فقد تكون مجرد منتخبات كلامية لتنكيه التعليق. وهي تختلف عن اللازمة الكلامية التي تميزكل معلق عن الآخر. حيث يعمد كل معلق إلى تأليف عبارة أو صرخة تكون بمثابة ماركة مسجلة باسمه. أما العبارات الأدبية فهي مستلّة من الكتب. ومقتطفة بشكل يخدم مرادات المعلق، كما يكشف التحليل الأدبي لخطاب المعلقين. بمعنى أنها ليست عفوية، ولا تُستدعى من الذاكرة. كما يحاول أن يوحي معظم المعلقين. فهم اليوم يدخلون المباراة وهم يحملون كراسات وأجهزة كمبيوترية مزدحمة بالمعلومات والمقولات الأدبية لتوظيفها في معرض تعليقهم. وربما يعود الفضل في هذا الاتجاه إلى المعلقين الجزائريين والتونسيين الذي استدخلوا البعد الثقافي في التعليق الرياضي العربي حيث صاروا يستشهدون بالقصائد والنصوص الأدبية في الوقت الذي كان فيه المعلق العربي محصوراً داخل المعطى الكروي. ولم يكن يتجرأ على شعرنة ما يجري في أرض الملعب. خصوصاً أن كرة القم في الوعي الجمعي كان يُنظر لها في تلك الفترة كمضاد لكل ما هو ثقافي، ولم يكن خيال المشاهد يتصور أن المعلق الرياضي يمكن أن يكون له صلة بأي شيء أدبي. وذلك البعد الثقافي بالتحديد هو الذي دفع طابوراً من المعلقين إلى تبني لغة إخبارية تواصلية مغايرة تقوم على اختلاق نص أدبي يرتكز بدوره على ما يبتدعه من عبارات رنّانة ومنحوتة في مختبره الخاص، حيث صار لكل مذيع شخصيته وطريقته المميزة في نقل أجواء المباراة. سواء على مستوى سرد الوقائع، أو وصف الأجواء داخل وخارج مضمار اللعب، أورسم أبعاد شخصيات اللاعبين، أو تصعيد الحدث الدرامي. وكأنه يكتب قصة أو يبني معمار فيلم مشوق. بمعنى أن المعلق قد صار منتج نص بمقدوره تحويل انفعالاته الشعورية وانفلاتاته الكلامية وخبراته اللغوية وميوله العاطفية إلى فن. لا يكفي للمعلق أن يبتكر عبارات فائضة الدلالات، بل لا بد له أن يختلق بالمقابل نبرة صوتية خاصة تعمل كحامل وحاضن لتعبيراته المهيّجةن كذلك لا بد له من مهارات التنغيم والتلوين وترجيع الصوت في الأداء كما تفترض مدارس الأداء الغنائي. وهذا هو ما يفسر لجوء القنوات الرياضية إلى نقل المباراة الواحدة بأصوات متعددة. حيث يمكن لمعلق أن يُخرج المباراة من هجعتها وبرودها بحماسته. فيما يمكن لمعلق آخر أن يقتلها. حيث يعمد المعلق الفنان إلى ابتكار الألقاب وتوزيعها على نجوم الملاعب، كاستكمال لنصه الأدبي. وكأنه ينمي شخصياته ويختبرها في حبكة روائية تأخذ مكانها على أرضية الملعب. المعلق الفنان يجيد نحت العبارات التي يترقبها الجمهور، وذلك بموجب خبرته في تشييد استراتيجية نصّه. فهو دارس جيد لنفسية المتفرجين. ويعرف تماماً معنى التوتر الدرامي في نَصّ المباراة. ولذلك يبالغ في الاستعارات والمجازات وحتى اختلاق الأعداء. فتلك المتوالية وغيرها هي التي تخلق التصورات لدى المشاهد. وهي التي تؤكد صدقية إحساسه. كما أن ذلك الاتكاء على المرتكزات الأدبية هو الذي يعمق منزعه الجمالي. ويؤسس لميثاق تواصل على درجة من الحيوية مع الجمهور، وذلك بمقتضى كاريزما أدائية تشبه الحيل التي يعتمدها الحكواتي في تلوينات صوته وتفخيم إحساسه. هناك من المعلقين من يثقل على المشاهد بمعلومات كروية بائتة ومؤرشفة. وبمواقف وطنية ودينية مزيفة. وبافتعال بهجات ملفقة، وكل ذلك ليس من فن التعليق في شيء ولا يكفل للمعلق الخلود في وعي ووجدان الجمهور، لأن المعلق الفنان لا بد أن يكومشجعاً بالدرجة الأولى، أوأن يتلبس دور المشجع المنزرع في المدرجات بحيث يفرح لفرح الجمهور ويحزن لحزنهم. وهذا هو بالتحديد ما يمكنّه من إنتاج قاموسه اللغوي الخاص المقدود من الآهات والهيجانات والصيحات والانفعالات والارتباكات والخيبات، بمعنى أن يكون لنصه مرجعية روحية هي بمثابة الرصيد لما يتلفظه من عبارات غنائية واصطلاحات فائقة الدلالة، قابلة لعبور الأجيال والخلود.
الفن الثامن
أما الأستاذ عامر عبدالله: التعليق هو الفن الثامن. طرحك جميل جدا لهذه الزاوية المهملة بالنسبة للتعليق الرياضي، دعنا نتفق في البداية أن التعليق كان مجرد وصف تفصيلي لأحداث المباراة باعتبار أن التعليق كان إذاعيا ومن ثم انتقل للتلفزيون بنفس النظام حيث الوصف التفصيلي بنظام المربعات، المربع رقم واحد والمربع رقم اثنين من أجل أن تصل المعلومة لأذن المتلقي عبر الإذاعة ومن ثم عبر التلفزيون؛ لكن الآن الأمور اختلفت كثيرا حيث إن العرب كان جزء منهم يتبع المدرسة الأوروبية مدرسة الوصف الهادئ مع تمرير بعض المعلومات وبعضهم الآخر اتبع مدرسة التعليق اللاتيني التي تتصف بالوصف المثير والحماسي.. بعد الألفية الجديدة أصبح بعضهم يمزج بين المدرستين وأنا اتخذت هذا النهج باعتبار أن المتلقي تختلف ذائقته فمنهم من يريد المعلومة ومنهم من يريد التعليق الحماسي خاصة في الخليج. نعم أصبح التعليق من الفنون الأدبية الجديدة، وأنا أتبع مدرسة المعلقين أصحاب الرأي فمثلا يكون لديك رأي في التحكيم والأمور الفنية بحيث ألا تكون ناقلا للحدث فحسب؛ بل أن تشارك في صنعه بشرط أن تمتلك الثقافة فيما تتحدث عنه.. وبالمناسبة كتبت في النبذة التعريفية الخاصة بحسابي في انستجرام بأن التعليق هو الفن الثامن لأنه يضم عدة فنون مثل: فن الارتجال، فن الخطابة، فن تصوير الحدث.. الخ والتعليق لم يعد وصفا فحسب لأن هذه هي الوظيفة الأساسية ولكن لابد من أن يضيف المعلق بعض اللمسات الجميلة كأن يستشهد بالشعر الفصيح أو النبطي وتلك تميز المعلق عن آخر، تماما كما الرسام عندما يضيف بعض اللمسات الجميلة بريشته التي تميزه عن أي رسام آخرز
البعد التأثيري
من جانبه يرى الأستاذ إبراهيم الوافي: التعليق الرياضي أخذ بعدا تأثيريا، مما لاشك فيه أن التعليق الرياضي أخذ بعدًا تأثيريا غاية في الأهمية، وهذا أمر طبيعي يتناسب مع انشغال أكبر شريحة من المجتمع بكرة القدم وحضورها الإعلامي عبر قنوات التلفزيون، وبالنظر إلى طبيعة التعليق الرياضي العربي مقارنة ببعض اللغات الأخرى كالإنجليزية نجد أن التعليق العربي يعتمد في الأساس على الكلام المتواصل وفتح آفاق كثيرة من الوصف والتداعيات الفنية والتاريخية والاجتماعية، قد تصل أحيانا حد الثرثرة والإزعاج، لهذا يتمايز المعلقون فيما بينهم ويبقى الأجود فيهم أقدرهم على الكلام المنظم، وفي هذا أيضا يختلف المعلقون بثقافاتهم وقدراتهم في الاستدعاء المناسب أو البناء اللغوي المحاكي للحالات الفنية والتاريخية للعبة، ولا شكّ أن كثيرا من المقولات تبقى خالدة نتيجة تطابق الحال مع المقال فيها، وفي هذا يبرز عدد من المعلقين بقدراتهم التحضيرية واستعدادهم الثقافي واللغوي لكل مباراة يستعدون لوصفها وتعليقها.. ولعل المعلق الخليجي «فارس عوض» يبدو لي أكثرهم تميزا.. ليس فقط من خلال مخزونه الثقافي واللغوي وحسن لغته مقارنة بغيره بل من خلال استشرافه لأحداث المباريات قبل بدئها وقدرته على القول المناسب في الوقت المناسب.. ولهذا كثير من مقولاته جرت مجرى «اللوجو» أو الشعار للأحداث الخالدة في تاريخ هذا النادي أو ذاك، فضلا عن شاعريته المميزة التي تظهر بين جمله الوصفية لتضيف للغته ووصفه بعدًا تأثيريا مدهشا انعكاسا لأثر الشعر في نفوسنا العربية دائما وفي مجمل الأمركثير من اللاعبين أو جماهير الأندية اتخذوا من بعض مقولات المعلقين سطورا مضيئة في سيرتهم الرياضية.. وأيا كان الأمر يبقى التعليق الرياضي أحد أهم مصادر المقولات الرياضية الخالدة في انشغالنا بكرة القدم التي باتت اليوم نافذة حية لاهتماماتنا ومشاغلنا وأحاديثنا العامة.
اللعب باللغة
وأخيراً يرى الأستاذ صالح بن سالم: المعلق ليس له غير اللعب باللغة اللغة هي العامل الأساس في الاتصال الشفاهي، ومعلق كرة القدم لا يعتمد على غير اللغة البتة، حتى إنه في كثير من الأحيان لا يُرى من خلف الشاشة مما يجعله يركز كل اهتمامه على الإبداع اللغوي في التعليق ؛ لذا فإن أهمية الإبداع اللغوي بالنسبة له تعتبر المحفز الأول للجمهور لمتابعته والاستماع إليه، ولكونه يتحدث أثناء اللعبة الجماهيرية الكبرى في عالمنا العربي ويصف ما يراه المشاهد المنغمس في الانتماء للفريق الذي يشجعه فإن هذا مدعاة للإعجاب بعباراته وتحويلها إلى صدى إبداعي لغوي يتكرر على ألسنة الناس، فإذا كان الخطيب له من محفزات متابعته ما هو غير اللغة كحركات الجسد إلا أن (المعلّق) ليس له غير اللعب باللغة وتحويلها محفزًا لمتابعته والإعجاب بها.