اختلاف اللغات وتمايزها لا يلزم منه أبداً التفاضل بينها وهنا لا يمكن أن نعزل موضوع تفاضل اللغات عن وظيفة اللغة المحورية وهي التواصل والتواصل في حقيقته هو بحث عن المعنى ونقله للغير وهذا يشمل التواصل مع الذات والتواصل مع الغير. وإذا تجاوزنا اللغة بمعناها التوليدي الرياضي الموجود في جين الإنسان كما يرى اللسانيون التوليديون ووصلنا إلى أن اللغة تخدم وظيفة تواصلية وهي بذلك تؤدي وظيفة اجتماعية كما يرى اللسانيون الوظيفيون والإدراكيون فهل يصح لنا أن نقول: إن لغة ما أفضل من الأخرى؟ هنا يجب علينا أن نسأل لماذا في نظرنا هذه اللغة أفضل من تلك؟ ولنأخذ لغتنا العربية ونسأل السؤال نفسه: لماذا نعتقد أن اللغة العربية أفضل مطلقاً من غيرها من اللغات؟ لا يمكن أن نحدد الأفضلية بلا تحديد معايير معينة ننطلق منها، وتلك المعايير لا يمكن أن نحددها نحن أهل العربية لأنها ستكون معايير منطلقة من خصائص العربية فتكون محابية للعربية ومفصّلة عليها فتكون حينئذ قابلة للطعن والتجريح من قبل أهل اللغات الأخرى فكيف ننطلق من لغتنا ثم نضع المعايير الحاكمة للتفضيل بين لغات البشر؟!!! ما الذي يجعل مثلاً الاشتقاق لا الإلصاق معياراً للتفاضل؟! قد يخرج علينا أهل لغة ما ويقولون إن المعايير الحاكمة يجب أن تكون خصائص موجودة في لغتهم هم وبالتالي ستكون لغة هؤلاء هي الأفضل! لا يمكن ضمان سلامة المعايير هنا من اختراق الذاتية والأيديولوجيا. تلك دوامة لن تنتهي يظهر فيها التحيز المقيت غير العلمي من قبل الشعوب للغاتهم.
وعوداً على الوظيفة التواصلية الاجتماعية للغة الإنسانية فيلزم ممن يفضل اللغة العربية مطلقاً على سائر اللغات أن يقول: إن العربية تخدم وظائف تواصلية اجتماعية لا تخدمها اللغات الأخرى، وبهذا فنحن نُخرِج اللغة من سياقها الثقافي والاجتماعي وهذا محال! بمعنى هل نستطيع أن نقدم العربية بديلاً للغات الأخرى لباقي البشر قائلين لهم: إن العربية تحمل ثقافتكم وتخدم أغراضكم بأفضل مما تفعل لغاتكم الأصلية؟! اللغة الإنجليزية على انتشارها وتوسعها وعولمتها لم تستطع أن تخترق اللغات والثقافات المحلية لتصبح بديلاً عنها بل يُنظر إليها على أنها لغة وسيلة وضرورة فقط لا يمكن أن تكون بديلاً للغة الإنسان الثقافية إلا لمن اختار طائعاً واعياً أن ينسلخ من ثقافته لكنه حتى لو اختار ذلك فلن يستطيع أبداً التخلص من رواسب اللا وعي المتعلقة بثقافته ولغته الأم.
إذاً اختلاف اللغات وتمايزها لا يعني بحال إمكانية التفاضل بينها علمياً، أما التفضيل الذاتي الذوقي أو الوجداني فهذا واقع في كل شيء فعندما يأتي إنسان لغته الأم غير العربية ويفضّل العربية فهذا التفضيل لا يلزم غيره من البشر فله أسبابه الخاصة المرتبطة بانتمائه للإسلام مثلاً أو شغفه بالأدب العربي كمن يتخصص بالأدب الإنجليزي فتجده لا يرى إلا اللغة الإنجليزية أهلاً للتفضيل وهذا التفضيل لأي لغة مبعثه ذاتي غير موضوعي علمي خاضع لذائقة الإنسان ووجدانه وهو قابل للتغير والتبدل متى ما وُجِد الباعث على ذلك.
ثمة أمور أريد التأكيد عليها على هامش القضية قبل أن أختم وأختم سلسلة مقالاتي هذه بخصوص خرافة تفضيل العربية مطلقاً على لغات البشر وهي:
أولاً: لا تعارض مطلقاً بين اعتقاد التكافؤ بين لغات البشر من الناحية العلمية وبين الاهتمام والحرص على لغتنا العربية واعتزازنا بها باعتبارها وعاء الوحي ورمز هويتنا وثقافتنا فكما يحافظ الفرنسيون والإنجليز والصينيون على لغاتهم ولا يعتقدون بأفضليتها المطلقة فيجب علينا أن نفعل الشيء نفسه، مع التسليم بأنه في كل قومية يوجد متعصبون للغاتهم ممن يعتقدون بدوران الأرض حولهم!
ثانياً: تسويق قضية أفضلية العربية على اللغات يضر بنا كثيراً ولا يكاد يخدمنا في شيء فإذا كان المستهدف نحن فنحن لا نحتاج لذلك ويكفي أن نعتقد أن العربية هي وعاء الوحي ويجب الحفاظ عليها، وإذا كان المستهدف غيرنا فبئست القضية وبئس التسويق! إذا كنا نؤمن بأن لغتنا وعاء لرسالة سماوية تساوي بين الناس في الأرض وتجعل التفاضل محصوراً في أمور روحية تتعلق بالعلاقة مع رب العالمين فكيف نسوّق قضية أفضلية لغة قومية على لغات أقوام آخرين؟!
ثالثاً: هذه القضية إنما هي عَرَض بسيط لمرض عضال أصاب الأمة في مقتل وهي اعتقاد أننا أفضل الناس مع أننا أكسل الناس عقلياً فإن أردنا إثبات قول عدنا إلى الأسلاف وإن أردنا نقض قول عدنا إليهم فإن قالوا قلنا وإن فعلوا فعلنا وإن أحجموا أحجمنا وليس لنا أي دور حضاري غير التغني بهم وإن تصارعنا على شيء تصارعنا على انتماءاتنا لهم وفي خضم ذلك كله يغيب العقل ويغيب العلم المبني على الاختبار والتجربة حتى صار العلم لدينا مجرد نقولات عن الأسلاف!
- د. رياض الدخيل
aldokhayelr@