علي الخزيم
توجّهتُ وبعض الصحبة الكرام إلى مسجد تتم فيه الصلاة على الجنائز بعد تغسيلهم بمرفق مخصص بجانب المسجد، وذلك للصلاة على أحد الأصحاب (في الحياة والعمل)، قيل لنا فلتتوجهوا إلى المغسلة لوداع صاحبكم رحمه الله، قلنا حباً وكرامة، فإذا بطابور من المودعين يُقَبّلون جبين الجثة المسجاة على سرير داخل المغسلة، وكان أحدهم يستعجل القوم؛ لأن طابوراً من النساء ينتظر دوره بالوداع، والملفت تلك السويعة إن رجلاً آخر كان يحاول ثني أهل الميت وأصحابه ومعارفه عن تقبيل جبينه المكشوف بعد الغسل وقُبَيْل الخطوة الأخيرة للتكفين، ويورد حججاً وأقوالاً لا يسمح الظرف بتمحيصها ومناقشتها والرد عليها في ذلكم الموقف حتى من أهل الاختصاص، غير أن صوتاً هامساً قد وجّه له كلاماً ليناً للإقلال من ترديد النصوص، وأن المراد من النصيحة قد حصل، وخرجت والناصح لا يزال يرفع يده وصوته مشدداً على عدم الجواز، لكني بحثت فيما بعد فوجدت فتوى بجوازه منسوبة لهيئة كبار العلماء، وجاء في مختصر أحكام الجنائز وبدعها للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (ما يجوز للحاضرين وغيرهم): يجوز لهم كشف وجه الميت وتقبيله.
فلماذا يصر البعض على الإفتاء في كل شيء وبكل مناسبة وبقناعة تامة أنهم على صواب، ومثله ذلكم الرجل الذي كان يصرخ بالمقبرة والجنائز تُرفع من السيارات المخصصة لنقلها داعياً إلى الإسراع بدفنها اتباعاً للسنة، وقيل له إن الكثير من المشيعين سيصلون على الجنائز هنا قبل الدفن (فاتئد هداك الله)، ومع إصراره وحِدّته بالكلام؛ رد عليه شيخ مُسن مخضوب اللحية بقوله: (اطمئن سيُدْفنون الآن فلم ننو تحنيطهم أصلحك الله).
أعود لطابور القُبْلَة الأخيرة، فمع أنها قد تكون من باب الوفاء للمتوفى؛ إلا أن هناك ملاحظات لعل من المناسب أخذها بالاعتبار، منها أن من المُقَبّلين لجبين الميت من لم يشاهدوه أو يزوروه بصحته ومرضه منذ سنين، وربما (وكما فهمت) أن منهم من ناصبه البغضاء والمكيدة في مجال العمل، فَلِمَ القُبْلَة الآن، ألم يكن من الأجدر أن تكون قبل هذا الموقف؟! إلا أن يكون السبب يعود للمتوفى ذاته، فيكون موقفاً نبيلاً من هؤلاء المُشيّعين.
ثم أنه مع دخول المودعين صالة التغسيل وبين الجنائز تنبعث روائح غير مرغوبة رغم المسك والعنبر والمنظفات التي تُمْسح بها الأرضيات باستمرار، فلو خُصصت غرفة جانبية لتوديع الميت لكان أدعى للنَّفْس والقلب بأن تمطره الألسن بفيض من الدعوات المطمئنة، ولنأخذ بالاعتبار أن من بين المتوفين بالمغسلة من كانوا يعانون من أمراض مُعدية ومن يحملون فيروسات فتاكة ونحو ذلك، وهذا ما جعل بعض المختصين بفروع من الطب يفضلون عدم تقبيل المتوفى، وينهون عن دخول مغسلة الأموات، تحوطاً.
ومن الكلمات والعبارات التي تسمعها حين تشييع الموتى وبمجالس العزاء قول بعضهم: هذه نهايتنا فمن يتعظ؟! وترديد البعض أقوالاً تشير إلى أنه درب كلنا سنمر به، وبين هؤلاء (المُتَقَوّلين) من لم تردعه أهوال الدنيا عن غَيّه وجبروته وفساده.