فقد شاءت الأقدار أن ألتقي بالأخ الكريم/ عبدالله بن إبراهيم بن جربوع في منزل والده بحي صياح خلال أيَّام التعزية، وأخذ يحدثنا عن سيرة والده -يرحمه الله- ومآثره الجليلة وهو يحبس دموعه بصعوبة بالغة، فهذه الكلمات وهذه العبارات المعبرة شدت انتباهي كثيراً وهو يسترسل بحديثه الطويل عن والده الكريم. ولد الشيخ إبراهيم في عام 1339هـ - الموافق 1919م بمدينة الريَّاض بحي صياح وترعرع في أكنافها بين والديه في أسرة عريقة، وكانت ملامح الذكاء والفطنة تلُوحُ على محياه، حتى صار -يرحمه الله- ملء السّمع والبصر، لا يذكره أحد من معارفه أو أقاربه أو ممن يتعاملون معه إلا ويثني عليه خيراً، وهذه تعتبر بشارة خير تفرح وتسر الأبناء والأحفاد.
الحديث عن حياة هذا الشيخ الفاضل ذو شجون، فقد شهدت له أفعاله قبل أقواله، فكان -يرحمه الله- يتصف بالجد في الطلب والاتقان في العمل والكرم في الانفاق والصدق في الفعل.
لقد مر في هذه الحياة بمكدرات ومنغصات وخصومات ومعوقات وكربات، فالمرء في هذه الحال يحتاج إلى طمأنينة في القلب وسكينة في النَّفس، فقد صبر في بداية حياته على الكثير من التّحديات التي واجهها في هذه المسيرة، وتصدى لها بكل شجاعة وعزيمة وإصرار، وكان -يرحمه الله - بجميل صبره وحسن أدائه وصادق إخلاصه يحقق فيها أعلى معدلات النجاح، فهو -بحمد الله وكرمه وفضله- يمتاز بفكر ثاقب وهمَّة عاليَّة ونظرة بعيدة المدى وإشراقة تتلألأ وحيوية دائمة.
مرت مراحل حياته بظروف قاسية شديدة الصّعوبة اقتصادياً واجتماعياً في ذلك الوقت، فقد كان -يرحمه الله- ضعيف البصر منذ نعومة أظفاره وعلى مدى مراحل حياته، فلم يتيسر له تعلم القراءة والكتابة، وعوضه الله سبحانه وتعالى بقوة حافظة وشدة الذكاء والعزم والحرص على التحصيل والتفوق والتميز، فحفظ أجزاء من كتاب الله الكريم على يدي عدَّة قُراء، واختير إماماً ومؤذناً في نفس الوقت وهو لا يزال في أول شبابه، فكان -يرحمه الله- يمتاز بالرفق واللين والإرشاد والنصح، فكل انطلاقة ومسيرة تعتريها نوبات من الصعوبة إلا أنه رسم لنفسه طريقاً واضحاً لا يحيد عنه أبداً في سبيل ذلك الأمر، فالرجال هم الَّذين يستطيعون بكل حكمة واقتدار الصّمود والتصدي ومقاومة كافَّة العوائق والتحديات بكل حزم وصبر، فقد عركته الحياة وعركها، وبلغ من العمر عتياً.
اتّصف الشيخ إبراهيم بصفات متعدِّدة ومتنوعة، فكان تقياً، ورعاً، زاهداً في الدنيا، منشغلاً بنفسه، بعيداً كل البعد عن مواطن الشهرة، عفيف اللِّسان، دائم الصمت، سليم النفس، سليم الصدر، لم يحمل حقداً أو حسداً أو ضغينة على أحد من النَّاس، بل كان محباً نقي السريرة يألف ويؤلف بعيداً عن مواطن الفتن، فعاش مقدراً محترماً من جميع محبيه، تألفه النفوس وتحبه القلوب، دمث الأخلاق عظيم التّواضع، ليِّن الجانب حسن التعامل مع القريب والبعيد.
كان -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- وقوراً مهاباً صلباً في الحق متواضعاً ومحبوباً من الناس كافة، وكان يقدر أهل العلم ويحبهم رفيقاً في وعظه وإرشاده ونصحه، يملك دعابة الفقهاء ومرح العلماء، حاضر البديهة متعدد الثّقافات، واسع الأفق، وكان ملماً بالأحداث التَّاريخية القديمة والحديثة والمحلية متحدثاً يرتجل نصائحه وتوجيهاته وإرشاداته ارتجالاً أكثر من (50) سنة وهو إمام ومؤذن بمسجد الجربوع بحي صياح، فقد منحه الله سبحانه وتعالى ملكة وسجية وبلاغة وحكمة وسلاسة ووضوحاً يختار الكلمات المعبرة والعبارات الهادفة والمفردات اللغوية الجميلة، يُحسُّ السّامع منه صدق الحديث فيتابعه أولاً بأوَّل بكل حواسه وبانتباه كبير.
وامتاز بقول الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، يشتد غضبه إذا انتهكت محارم الله أو تسلط القوي على الضّعيف أو العاجز أو المسكين، يحاول بقدر الامكان المحافظة على صلة الرحم بشتَّى الطرق، ويحرص كل الحرص على جمع أفراد أسرته كل أسبوع في منزله العامر في كل مناسبة في العام، يحث أفراد اسرته على التماسك والترابط والتآخي والتكاتف والتعّاون فيما بينهم، مستنداً على أقوال سيِّد الأمَّة المحمدية نبينا محمَّد صلوات الله وسلامه عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنُيان يشُدُّ بعضُهُ بَعْضاً»، وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى لهُ سَائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى»، أخرجه البخاري ومسلم وأحمد. وذلك لحرصه الشّديد على حماية أفراد الأسرة من كل شيء يسيء لها، فقد ظهر ذلك الأمر بجلاء في معالجته لبعض القضايا الأسرية التي تعرض عليه الفينة تلو الفينة، ويحيطها دائماً بسرية تامة، وكان يستخدم ذكاءه الاجتماعي في التعامل مع المواقف حتى لا يخسر الأطراف، وبهذه القيم العالية والمبادئ الرفيعة استطاع بقدرة رب العباد أن يحفر اسمه على جبهة عصره، كما ترك بصمته في نفوس أبنائه وأحفاده وأقاربه ومحبيه وجيرانه.
كان -يرحمه الله- يتصف بصفة نادرة قلما تجدها حالياً عند الناس، أنه إذا صافحك شد على يديك وأخذ يسأل عن صحتك أولاً وعن أفراد الأسرة وعن الأخوة والوالدين إذا كانوا أحياء دعا لهم بالصحة والعافية وطول العمر وإذا كانوا أمواتاً أخذ يترحم عليهم ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة، وبعد هذا وذاك يترك يديك رويداً رويداً، كان كريماً ينفق كثيراً من ماله -الَّذي كتبه الله له- في أوجه الخير، ويساعد أقاربه بسرية تامة حتى عن أهل بيته وأبنائه.
حرص الشيخ إبراهيم -يرحمه الله- على متابعة الدّروس الدينية والعلمية التي تقام في بيوت الله، يستمع إلى شرح بعض المتون المعروفة بنوع من الاهتمام والحرص والرّغبة في طلب العلم والمعرفة.
لا يدَّخرُ وسعاً في استخدام أبجديات المرونة ووسائل اللِّين في حالة المناقشة، ولا يضخم الامور للحد الذي يفضي به الى الخصام.
كان أبو عبدالله يتحلى بصفة العفو والتسامح، فمهما أسيء إليه فإنه يصبر ويلتمس العذر للمسيء، ويكثر الدعاء له بظهر الغيب والاستغفار، ومن الأمور التي كانت تأخذ حيزاً كبيراً من تفكيره المحافظة على إمامة المسجد، فقد دوى صوته في الآفاق وترنم في الاصقاع، صوت شجيّ علا المآذن، يستيقظ على صوته الهاجع ويتلذذ به الجالس.
رحل شيخ المحراب ومزمار القيام إلى جوار ربه يوم الأربعاء 12-12-1437هـ الموافق 14-9-2016م بعد أن فرش طريق (الصّلة والتّواضع والأخلاق والكرم) بأزاهير الوفاء والنبل ولين العريكة.
يقول الشاعر الحكيم:
وما هذه الأيَّام إلا مراحل
يحث بها حاد من الموت قاصد
واعجب شيء لو تأملت أنها
منازل تطوى والمسافر قاعد
وكل إنسان منَّا راحل عن هذه الدنيا الفانية، ترفع أقلامه وتجف صحفه كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، ولكنَّ هذه الصّحف بما هي عليه وبما فيها تنشر على ألسنة النَّاس لتكون عمراً ثانياً في حياته وبعد مماته لتملأ الفراغ الَّذي تركه ببدنه، فطوبى للذين يصنعون لأنفسهم الذكر الحسن بالعمل الصَّاِلحُ.
يقول الشاعر:
يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه
هل من سبيل إلى لقياك يتفق
مهما أوتيت من البلاغة والقدرة على الكتابة لا أجد الكلمات التي تعبر عن صدق مشاعري وحبي وتقديري لهذا الشيخ الفاضل يرحمه الله، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً.
وقد شارك في تشييع جثمانه حشد كبير من النَّاس من داخل حيِّ صياح وخارجه، حيث إن جامع الأمير/ عبدالله بن محمد بحيِّ عتيقة قد اكتظ بالمصلين، وقد تحرك جمع غفير خلف جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير بمقبرة صياح، ودفن بجوار قبور والديه وأقاربه حسب الوصية التي أوصى بها الأبناء والأحفاد، وألسنتهم تلهج بالدّعاء والرحمة والمغفرة والثّبات على روحه بأن يغفر الله له جميع خطاياه وزلاته وعثراته وأن يتسامح عنه، وخلال أيَّام التعزية لايزال المعزون يأتون من كل حدب وصوب، إنهم يعرفون مآثره الطّيبة وسيرته الحسنة وأعماله الخيرة كما قيل في الأثر (المؤمنون شهداء الله في الأرض) فقد آلم رحيله كل محبيه وأحفادها وأبنائه وبناته، ولكن سيرته الحسنة ستبقى خالدة -بإذن الله- في نفوسهم وأذهانهم وعقولهم إلى الأبد.
- عبدالعزيز صالح الصَّالح