تجد المملكة نفسها مجدداً أمام حيف أمريكي كبير وغير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين، يمثله تصويت الكونغرس الأمريكي بجناحيه، مجلس الشيوخ ومجلس النواب، بغالبية كبيرة لتجاوز «فيتو» الرئيس باراك أوباما على القانون المسمى رمزيا «جاستا» (العدالة ضد رعاة الإرهاب) الذي يتيح لضحايا هجمات 11 أيلول - سبتمبر ملاحقة المملكة العربية السعودية قضائياً أمام المحكم الأمريكية.
من الناحية القانونية، يفتقد هذا القانون إلى ابسط قواعد الشرعية، إِذْ إنه يتيح بسط سلطة المحاكم الأمريكية على جهات اعتبارية خارجية، وهذه الجهات ليست شركات أو مؤسسات تجارية أو خيرية، بل حكومات ومؤسسات دولة رسمية طالما ربطتها بالولايات المتحدة علاقات ووشائج قوية طوال أكثر من نصف قرن من الزمن، وطالما كانت حليفا قويا لأمريكا في المنطقة وغيرها، وصولا إلى مقاومة الغزو السوفيتي لأفغانستان ومرورا بكل القضايا الدولية التي كانت مستعرة في زمن الحرب الباردة ومنها المشاركة في أولمبياد موسكو عام 1980 أو مقاطعته، ويومها تضامنت المملكة مع واشنطن وتخلت عن المشاركة في ذلك الأولمبياد، تعبيرا عن وقوفها إلى جانب الموقف الأمريكي.
ليس في القانون الدولي العام، أو القانون الدولي الخاص، من قاعدة أو عرف أو نص يتيح لدولة ما مهما علا شأنها أو بلغ جبروتها أن تبسط سلطة محاكمها وقضائها الخاص على الدول أو المؤسسات أو الهيئات الاعتبارية الأجنبية، لأن في هذا خروجاً صارخاً عن المبادئ القانونية المعمول بها في كافة أنحاء العالم والتي تحدد شروط الصلاحية الإقليمية أو الشخصية للقضاء والمحاكم في أي دولة من الدول.
وقانونيا أيضاً، يشكل إقرار هذا القانون تعدياً على مبدأ الحصانة السيادية للدول الأجنبية، باعتباره المبدأ الذي يحكم العلاقات الدولية منذ مئات السنين، ومن شأن إضعاف أو خرق الحصانة السيادية التأثير سلباً ليس فقط على جميع الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، بل أيضاً على العلاقات الدولية برمتها، إِذْ تعود العلاقات الدولية بسبب هكذا ممارسات إلى الاحتكام لـ «قانون الغاب» الذي يملك فيه الكبير حق التعدي على الصَّغير أو محاكمته لأنه أضعف منه وأقل نفوذاً.
ولا يغيّر من لا شرعية هذا القانون ولا من النتائج القانونية المترتبة عليه، التصويت عليه بأغلبية ساحقة في مجلسي الكونغرس، رغم موقف الإدارة الأمريكية التي أعربت عن معارضتها لقانون «جاستا» بصيغته، وذلك على لسان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ووزير الدفاع آشتون كارتر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دانفورد، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان.
والدليل الأوضح على عدم شرعية «قانون جاستا» معارضة العديد من الدول بقوة لإقراره، إضافة إلى العشرات من خبراء الأمن القومي الأمريكيين، في ظل استشعارهم للمخاطر التي يشكلها هذا القانون على العلاقات الدولية.
فقد اعتبرت وزارة الخارجية الروسية أن الكونغرس الأمريكي بإقراره قانون «جاستا» (العدالة ضد رعاة الإرهاب)، أظهر مجددا استخفافه المطلق بالقانون الدولي ولجأ إلى «الابتزاز القضائي». وقالت في بيان صدر عن قسم الإعلام والصحافة بالوزارة: «أظهرت واشنطن مجددا استخفافها المطلق بالقانون الدولي عندما شرعنت إمكانية رفع دعاوى لدى المحاكم الأمريكية ضد دول يشتبه بدعمها للإرهاب».
وأضافت الوزارة أن ذلك «يأتي في سياق الثقة المفرطة للعديد من السياسيين الأمريكيين باستثنائية أمريكا، إِذْ يواصلون توسيع صلاحيات القضاء الأمريكي لتشمل العالم برمته، دون الأخذ بعين الاعتبار مبادئ سيادة الدول والعقل السليم».
وحذرت الخارجية الروسية من أنه بعد إقرار القانون باتت دول العالم كافة مهددة بالتعسف الأمريكي، إِذْ من غير المستبعد أن توجه واشنطن اتهامات تقف وراءها دوافع سياسية، إلى دول لا تروق لها. وأعادت إلى الأذهان في هذا الخصوص أن روسيا قد اكتسبت خبرة لا بأس بها في مواجهة قرارات قضائية منحازة ومدبرة تصدرها محاكم أمريكية ضد روسيا ومواطنين روس.
ويقول معارضو «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب» إنه قد يتسبب في توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والكثير من الدول الأجنبية ومن بينها المملكة، التي تمثل حليفا أساسيا في الشرق الأوسط بالنسبة لواشنطن، ويؤدي إلى صدور قوانين جوابية انتقامية تستهدف المواطنين أو الشركات الأمريكية في بلدان أخرى.
من الناحية السياسية، يمثل إقرار هكذا قانون خيبة أمل لكل أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة، إِذْ إنه يظهر بوضوح أنه لا يمكن للحلفاء والأصدقاء المراهنة على الصداقة الأمريكية والوثوق بوشائج العلاقات القوية معها للنجاة من حيفها وجبروتها أو لتجنب كيدها. فخلال السنوات الأربع الأخيرة خذلت الولايات المتحدة المملكة في العديد من المواقف السياسية التي كانت الرياض بحاجة فيها إلى دعم، وأولها في سوريا حيث ما زالت واشنطن مترددة وضعيفة في مواقفها تجاه الأزمة السورية، ونكاد نقول إن واشنطن متواطئة مع النظام السوري على تخريب سوريا وإضعافها وتدمير بناها السياسية والاقتصادية والتحتية بعدم تقديمها الدعم المباشر لمصلحة فصائل المعارضة السورية لتحقيق هدف إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، والكل يذكر الأزمة التي مرت بها العلاقات السعودية - الأمريكية عندما رفض الرئيس أوباما دعوة الرياض لضرب النظام السوري في سبتمبر - أيلول العام 2013 بعد اتهام النظام باستخدام الأسلحة الكيميائية.
ولسنوات وسنوات كانت السياسة الأمريكية في العراق تناقض مصالح المملكة، خصوصا لجهة تسييب هذه البلد العربي الهام للنفوذ الإيراني ودعمها وتأييدها لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي المجبول بالفساد والتبعية لطهران والمعادي للمملكة وسياساتها ودورها الحكيم في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، ما زالت المملكة تشعر بـ «غصة» من الإدارة الأمريكية بسبب رعايتها الاتفاق النووي الغربي مع إيران، والذي استبعدت من المفاوضة عليه أي دولة عربية أو إقليمية خصوصاً المملكة، رغم أن الأمر يعني دول المنطقة قبل غيرها البعيدة آلاف الأميال عن إيران، حيث أدَّى هذا الاتفاق لفك العزلة والحصار الاقتصادي اللذين كانا مفروضين على إيران وأتاح إطلاق يد طهران لتوسيع دائرة تدخلاتها في البلدان والدول العربية بدءا من لبنان وسوريا مرورا بالبحرين ووصولا إلى اليمن الذي يشكل بكل المعايير امتدادا للأمن القومي السعودي لكل عارف وذي عقل ومنطق جيوساسي مسؤول.
ما هو المطلوب للرد على مثل هذا القانون؟ وما هي الأدوات التي تملكها المملكة لإجهاض مفاعيله؟
ليس من الحكمة بمكان ممارسة سياسة الانتظار أمام هذه القانون المجحف والتلطي وراء القول إن أن إقرار هذا القانون يحتاج إلى سنوات.
ولمواجهة مثل هذا القانون تمتلك المملكة مجموعة من أدوات الضغط الاقتصادي وحتى السياسي، التي من الممكن أن تؤثر، على المصالح الأمريكية ليس في العالم العربي والإسلامي فقط، بل أيضاً داخل الولايات المتحدة.
فعلى الصعيد الاقتصادي، من الممكن أن توقف المملكة صفقات شراء الأسلحة من الولايات المتحدة، ومن السهل التعويض عنها عند دول أخرى تتسابق للحصول على مثل هذه الصفقات، وأيضاً من الممكن أن تخفف من حجم وارداتها من الأسواق الأمريكية (الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأول للمملكة)، ومن الممكن أن تبدأ بسحب استثماراتها: مالية وغير مالية، من هناك (وتقدر بنحو 760 مليار دولار)، بالإضافة إلى سحب نحو 115 مليارا من احتياطاتها المالية في الولايات المتحدة (وهي تشكل واحدا في المئة من مجموع الاحتياطي الأمريكي). وهناك الكثير من مثل هذه الخطوات الاقتصادية التي من الممكن أن تحرم الولايات المتحدة امتيازات وتسهيلات اقتصادية ومالية عديدة. وعلى الصعيد السياسي، باستطاعة المملكة فعل الكثير، ومن ذلك: حشد أكثرية الدول العربية والإسلامية وحتى الأجنبية وراء موقفها الرافض لهذا القانون التعسفي الجائر، لأن الدور سيأتي عاجلا أم آجلاً على هذه الدول، كون النفوذ الأمريكي واسع والهيمنة الأمريكية على المنطقة قوية، وتستطيع الرياض أن تجعل مجلس التعاون الخليجي يتخذ موقفا موحدا وعلى قلب رجل واحد من ذلك.
في منطقتنا الكثير من المواطنين العراقيين والسوريين واليمنيين وحتى الليبيين ممن تضرروا من الضربات الأمريكية وسقط لهم ضحايا سواء بواسطة الطائرات الموجهة أو خلال فترة الاحتلال واعترفت واشنطن أنهم قُتلوا بنيران أمريكية عن طريق الخطأ، ويمكن لهؤلاء رفع قضايا مماثلة ضد أمريكا بدعم من المملكة، وذلك لإشعار الأمريكيين أن لهذا القانون المسمى «جاستا» سيفا بحدَّين ويمكن أن يعرّضهم للمحاكمة قبل أن يلجئوا لمحاكمة الآخرين.