إبراهيم بن سعد الماجد
كتابة السِّير الذاتيَّة في حقيقتها، ليست كتابةً توثيقيَّة تاريخيَّةً فحسب، وإنما هي تحمل أكثر من وجه: بين تربوي ونفسي وسلوكي وأخلاقي، نستثني من ذلك السِّير الهشَّة التي يكتبها من اعتقد أن في سيرته عبرةً ودرساً، وهي لا تتعدَّى حكاية مولد إنسان كبُر ثم هرم.
الرئيس الكوري الجنوبي (لي ميونج - باك) في سيرته الذاتية المنشورة عام 2012 دروس كثيرة، وعبر عديدة، قد تكون بتفاصيلها غير المملة شبه اليومية مدعاة للتأمل وأخذ الدرس تلو الدرس في منهج قد نُسمِّيه العصاميَّة وإن كان في واقعه أكبر من العصاميَّة؛ فهو تجاوز كُلَّ ما يمكن أن يكون سلوك إنسان عادي، واتَّخذ منهجاً خاصاً من أجل أن يصل لهدف واضح أمامه، لكن هذا الطفل الكوري الهزيل الذي لا يدري هل يكافح الجوع أو المرض، أم هل يعالج الوضع النفسي المتردي والعائلي المُشتَّت، حطّم كُلَّ الأسوار الصلبة التي كانت تواجهه طبيعيَّة كانت أو معنويَّة. ولعل اللافت في سيرته برّه بوالدته، حيث آثر طاعتها على مستقبله، فكان لها مُطيعاً معيناً باراً صادقاً، ووالدته أيضاً كان لها دور تربوي تأسيسي في حياة هذا الفتى، فقد ربته على أن لا يكون تعلّقه إلا بالله لا بالبشر، وأن لا ينتظر جزاءً ولا شكوراً عندما يُقدِّم خدمة لأي قريب أو صديق أو جار؛ فيذكر (لي ميونج) أن والدته كانت ترسله للجيران عندما يكون لديهم مناسبة ما ويحتاجون لمن يساعدهم، وتؤكد عليه أن ينصرف فور إنهاء ما يُوكل له من عمل، وأن لا يقبل أي عطية مهما كانت حتى ولو قطعة كعك مثلاً.
هذه التربية الأخلاقية النفسية جعلت من هذا الفتى إنساناً مختلفاً، فلم يعد ينتظر مساعدة الآخرين له ليحقق نجاحه وهدفه في الحياة؛ بل كان يعمل وهو يتذكر دعاء والدته له ولإخوته كُلَّ صباح، حيث كانت تجمعهم قبل أن يخرجوا لمدارسهم، وتبتهل إلى الله أن يوفّقهم كل باسمه، كافح الفقر وكافح المرض وكافح التخلّف فكان أن حقَّق أكبر مما يتطلع إليه، بل لم يكن يحلم بما وصل إليه.
في مشواره التعليمي الذي لم يكن سهلاً ولا ميسراً، رسالةٌ لشبابنا الذين يتضجرون أحياناً كثيرة عندما لا يأتي توقيت محاضراتهم مع الأوقات التي يفضّلونها ويأخذون في التحايل من أجل تعديل جدول محاضراتهم، وهم المُنعَّمون مركباً ومسكناً ومأكلاً.
يقول صاحب هذه السيرة إنه عندما قُبِلَ في الجامعة بعد جهد جهيد كان عليه أن يوفر رسوم الدراسة وأنَّى لأسرته أن توفرها، فكان أن وجد عملاً يعتبر من وفره له أحسن إليه! أتدرون ما هو هذا العمل الذي حصل عليه هذا الفتى الهزيل المريض؟ إنه جامع للقمامة! يقول: كنت أخرج من البيت الساعة الرابعة قبل الفجر وأجمع قمامة السوق المُوكلة إليّ، ومن ثم أقوم بنقلها لمجمع النفايات على بعد أميال مع طريق منحدر، أنقلها في (عربية) أدفعها بين يدي مع انحدار في الذهاب وصعود في الإياب، ست مرات حتى أنهى ما جمعت، ثم أتوجه فوراً للجامعة! ما يحصل عليه من نقود كان كافياً لرسوم الجامعة دون أي فائض.
رافق هذه الرحلة في طلب العلم الكثير والكثير من المنغصات، ولكن الإصرار والتربية الصالحة جعلت من كُلِّ هذه المعوقات دافعاً لتحقيق الكثير من المنجزات.
«الطريق الوعر» - كان عنوان سيرة هذا الفتى - الرئيس - وهو بالفعل وعراً ولكن نتائجه كانت مبهرة، فمن الجامعة إلى رئاسة بلدية سيول العاصمة الكورية، ومنها إلى رئاسة شركة هيونداي العملاقة، ومنها إلى رئاسة جمهورية كوريا، سيرة حافلة في كُلِّ تفاصيلها التي تصل إلى تفاصيل يومية بنجاح كبير جداً.
سيرة حريٌّ بكُلِّ شاب قراءتها ليتعلّم منها كيف يكون الإصرار وكيف يكون النجاح.
سيرة تقول أسطرها إن النجاح لا يمكن أن يأتي لمن لا يعي أهمية بر الوالدين، الذي هو أصلاً من أصول ديننا الحفيف، ولا يُمكن أن يأتي لمن لا يعي كذلك قيمة الوقت الذي حضَّ عليه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث.
سيرة كتبها من كان يوماً يبحث عن قلم الرصاص فلا يجده إلا بعد عناء، فكان أن صار يتحكم في كُلِّ أرض كوريا ويرأس شعبها، وقبل ذلك كان الرجل المؤثِّر في صناعتها وحضارتها.