ميسون أبو بكر
لم تكن المدرسة في طفولتي هي بيت العلم وصرح المعرفة فقط، بل كانت تشكل بالنسبة لي ولزميلاتي عالمنا السحري الذي نخرج إليه من أسوار منزلنا الصغير وعائلتنا المعدودة إلى عالم أكبر ومساحة ذات فصول كثيرة، وألوان مختلفة من الطالبات والمعلمات والأنشطة المختلفة التي تبدأ بالطابور الصباحي والنشاط الإذاعي الذي كان يشكل منصة مهمة لبدء الصباح واستعراض مواهب الطالبات ما بين تجويد آيات من القرآن الكريم أو قراءة أحاديث نبوية شريفة وبين إلقاء قصيدة أو باقة من معلومات تحت مسمى «هل تعلم».
المدرسة كانت تعني رفقة رائعة مع مجموعة من الطالبات أصبحن عالمي وحكايتي الخاصة، المدرسة كانت معلمة أحبها وأخرى أقلد شرحها المدرسي أو ملابسها التي شكلت بالنسبة لي أول عارضة أزياء أدهشتني وكنت أقضي وقتًا في المنزل أقلد مشيتها أو أناقتها.المدرسة هي مكتبة كنت أركض إلى رفوفها انتقي الكتب تبعًا للألوان الزاهية المرسومة على الغلاف فأدركت بعد ذلك أن الكتاب صناعة تبدأ من الغلاف إلى المحتوى، وكانت المكتبة أجمل الأماكن إلي بتصميمها وطريقة عرض الكتب والماسات الملونة والسجادة الجميلة التي كنّا نجتمع عليها نهمس بأسرار الكتب التي قرأناها عن سندباد وبيضاء الثلج وسندريلا.
ما زلت أتذكر بذاكرة قوية قاعات المختبرات والأنشطة المدرسية وما تحتويه من نشاطات مشوقة، كنّا نترقب تلك الحصص بشوق، حصة التدبير المنزلي أو نشاط الرسم أو الإلقاء أو تجويد القرآن ونشاط الكشافة المدرسية، كان اليوم المدرسي حافلاً بكل مدهش وجاذبًا للطلاب وكان المعلم في البدء والنهاية هو (المايسترو) القادر على قيادة هذه الأوركسترا الصباحية.المعلمة كانت القدوة لنا والشخصية البطل التي كان كلامها الفصل في كل شيء، فإن قال أحد ما شيئًا يخالف ما قالته المعلمة أسرع بالقول: كذا قالت (الأبلة) فلا جدال بعدها، لأننا كنّا نشعر بما تجتهد في تقديمه وبالطريقة المشوقة التي تقدم لنا من خلالها العلم والمعرفة كطبق فاكهة زاهي الألوان والشكل والرائحة.
المدرسة كانت بالنسبة لنا احتفالاً صباحيًا نتسابق إليه، نصحو دون أن يوقظنا أحد ونحرص على نظافة ثيابنا وأخذ كل حاجاتنا تاركين في جعلتنا متسعًا لبعض الحكايا التي سنجلبها معنا.
كنا نكره العطل سواء نهاية الأسبوع أو العطل التي تصادف المناسبات الرسمية أو السنوية لأن المدرسة كانت عالمًا ساحرًا بكل ما تقدم لنا، لم تكن دراستنا تقليدية جافة، ولم يكن معلمونا مجرد ملقنين لمواد صماء، بل كانوا يتقنون حقًا فن الشرح وفن إلصاق المعلومة في ذاكرتنا، ويبحثون بيننا عن أصحاب المواهب، بل يصنعونها فينا أحيانًا وينمونها ويتابعونها لذلك تخرجنا للحياة نحمل شهادة تعليمية وحياتية وفكرية، لم نتسلح فقط بالعلم، بل بالفكر والموهبة والإبداع.جيلنا كان يحترم المعلم الذي هو رمز وطني وحياتي، والمعلم كان يضعنا في منزلتنا اللائقة بالحياة مشكلاً بالنسبة أنا الأهل والمعلم والموجه والصديق في أحيان كثيرة.
الآن الحال تغير لكن ليس للأفضل كما هي سنة الحياة، هناك قطيعة روحية ونفسية بين الطالب ومدرسته ومعلميه، وكأن المدرسة عقاب نفسي للطالب الذي يحضر إليها بحمل نفسي ثقيل، والمعلم ما عاد ذلك البطل الذي نترقب في كل حركة له قصة مجد تخلدها مخيلتنا، بعض المعلمين يحضر بهندام غير مرتب وكأن ثقل الليلة الماضية مازال يغشى عينيه وكان الطالب هو المسؤول عن استيقاظه باكرًا وحضوره إلى المدرسة دون أن ينال قسطًا كافيًا من النوم بعد سهرة طويلة في الاستراحة.
لطالما حملت وزارات التعليم مسمى التربية قبل التعليم، ولطالما كان المعلم هو المربي الفاضل والطالب هو التلميذ النجيب الذي تشوقه المدرسة والمعلم فيسعى لإرضائه بالجد والاجتهاد.
الله يخلف على تلك الأيام التي بقيت ساطعة في ذاكرة نحملها كصندوق سحري تجمّل الحياة حين تعزف ذاكرة الزمن الجميل.
من آخر البحر
ذهب صغيرًا في موسم كنّا نلعب فيه
ونراقص كل فرّاش الحقل
في دنيا كنّا نكتبها
نرسمها كظلال الريح
نخشاها
ونعود لنلهو برفقتها
أسرابًا كطيور الفجر