أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك من كتب من قبل عن الصدمة الحضارية التي تتلبّس الإنسان المنتقل من بيئة حضارية دنيا إلى مجتمع متحضر ومتطور، ولكن قلّ من عرض للصدمات التي تصيب مجتمعاً كاملاً بجميع أطيافه وكلّ طبقاته جراء انفتاحه المطلق، ليس على مجتمع واحد مختلف بل على العالم بأكمله شرقية وغربية، تركية وكورية وأمريكيّة وروسية، بوذية ونصرانيه ويهودية وماركسية، وهوة - حين التدقيق في حاله - لم يستعد بعد لهذه النقلة النوعية الاستعداد الذي يؤهله لامتصاص قوة الصدمة، ومن ثم يخفُّ وقعها على جسده كمجتمع واحد بسيط متعارف ومتكاتف ومتعاون ومتواصل بشكل شبه يومي ويعرف بعضه أحوال البعض الآخر.
لقد تولّد عن صدمة الانفتاح هذه، المواكبة لثورة التقنية التي جعلت العالم كله بين عينيك وفي متناول يديك صغيراً كنت أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، عالماً أو جاهلاً، أقول: لقد تولّد عن هذه الصدمة العنيفة لمجتمعنا السعودي انقسامنا إلى ثلاث فرق:
* فريق يرى الانغلاق الكامل والانكفاء على الذات، فما عندنا هو الحق المطلق، ومن الاعتزاز بأنفسنا أن نغلق الأبواب والنوافذ أمام الفكر الوافد حتى نضمن السلامة ونحقق النجاة في الدارين، إذ إننا لن نجني من التواصل مع غيرنا جراء ما نعيشه من تغيرات عالمية، سوى فقدان الهوية وضياع الخصوصية وذهاب العزة وتولُّد الخذلان، وكأن الأمر كله بيدك وتحت قدرتك، وبإمكانك التحكم فيه كيفما تشاء، مع أننا نعلم أن الحقيقة خلاف ذلك، فالانفتاح اليوم قدر لا مفر منه وحتمية تاريخية لا فكاك عنها بحال.
* فريق لم يستطع مقاومة الصدمة فصارت رياح التغيير العالمية تلعب به ذات اليمين تارة وذات الشمال تارات، بعد أن فقد توازنه، وركب هواه، وضحى بهويته، حتى صار مع أولئك الذين يتجرؤون على كل المسلّمات، ويدوسون جميع القيم المجتمعية والسلوكيات، ويعبثون بالأعراف والعادات، ولا يتورعون بل يفخرون ويفاخرون بالقناع الجديد الذي ارتدوه، ويبشرون بعهد قريب تتكسر فيه القيود، ويصبح ما نعيشه في بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية من تمسُّك بالشريعة الإسلامية الحنفية السمحاء صفحة من الماضي ستحفظ على الرفوف كما حُفظت من قبل مصنّفات الأوراق الصفراء، فالزمن ليس الزمن، والواقع اليوم غير ما كان، ويجب أن نعي ذلك ونتماشى معه، هكذا يقولون!! وهؤلاء كالزّبَد وإن علا وكثُر فلا فائدة ترجى من ورائه، وجزماً سيكتشف العقلاء حقيقة حالهم وخيبة مآلهم وخسران صنيعهم وعظم ضررهم على أنفسهم أولاً وأسرهم ثانياً وأوطانهم ثالثاً وأفراد مجتمعاتهم رابعاً، وخامساً ... وسادساً ...
* أما الفريق الثالث فهو من أمسك بيده بوصلة تقيس المسافات وتحدد الاتجاهات وتضبط المسارات، حتى يتحقق لديه بشخصه هو أولاً التوازن المطلوب حين الأخذ والعطاء دون أن ينال هذا الشيء من جذور تكوينه ومكوّنات هويته، ولا يمنعه هذا الأمر العزيز من تحقيق التعارف الإنساني الذي جعله الله عزّ وجلّ علة الاختلاف البشري {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.
أعرفُ أن هذا تحدٍّ حقيقي يواجهنا نحن أفراداً ومجتمعات، ولكن هو ما سيمتص قوة الصدمة، ويخفف من الكوارث المتوقعة، خلاف ما سيكون حالنا - لا سمح الله - إن نحن اصطففنا في خندق الفريق الأول، أو أننا استسهلنا الانضمام لطابور الفريق الثاني، ولكن قبل هذا وذاك لا بد أولاً أن نتفق على نقطة التوازن التي يجب أن نقف عندها، بعد أن نعرف حقيقتنا نحن وماذا نملك وماذا نريد، في المقابل نتعرف على الآخر كما هو في الحقيقة ليس كما نظن أنه هو «سلباً أو إيجاباً»، والأهم أن نكون أصحاب قناعة تامة بأنّ الحوار البنّاء هو سبيلنا للوصول إلى ما نريد، وأن نكون أمناء على الحقيقة، أوفياء لديننا أولاً ثم لأوطاننا وولاة أمورنا وأُسرنا، والأهم لذواتنا التي ستسأل ما تقول وتفعل ، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.