مرت ثلاثة أشهر على نشر موجز سياسي 1, وهي ثلاثة أشهر كانت ستأخذ ثلاثة أعوام في دورة الحياة السياسية الطبيعية. هذه الوتيرة المتسارعة تجعل القارئ السياسي يشعر بخيبة أمل من أن الحلول المطروحة اليوم على طاولات المفاوضات ومكاتب الاجتماعات لن تجدي نفعا بعد أن أصبحت سياسة اليوم رهينة للتصعيدات الإستراتيجية الأسبوعية إن لم تكن اليومية. اليوم يقرأ العالم المشهد السوري كقضية لن تنتهي، واليمن كقضية شائكة، وجاستا كقضية دولية وقانونية، وأخيرا فالسعوديون يقرأون القرارات التنظيمية الأخيرة كمرحلة جديدة في الكيان السعودي المالي.
اليوم يتخوف السعوديون من كذا أمور قد تعصف بحياتهم المادية والقانونية، وهي بلا شك كانت محل متابعة الصحف العالمية، فالصحف البريطانية والأمريكية تناولت قرارات مجلس الوزراء حول البدلات وتخفيض الأجور في اليوم نفسه، وأصبح الإعلام الغربي يتابع عن كثب المرحلة التالية. وبالتزامن مع هذه المنعطفات التاريخية، يأتي قانون (جاستا) ليزيد تخوف السعوديين تجاه المرحلة القادمة. الأمر الذي يقودني إلى القول إن قانون (جاستا) ما هو إلا آخر أولويات المخاطر التي يجدر بنا كمحللين ومتابعين التخوف منها.
إن الأمر الأهم للكيان المالي السعودي يمتثل في شهر ديسمبر، الشهر الذي يمكن أن يغير وجه الاقتصاد السعودي ومعه كثير من البلدان المرتبطة بالدولار. ففي ديسمبر من كل عام يجتمع أعضاء المجلس الاحتياطي الاتحادي المتمثل فيما يعرفه الناس بالبنك المركزي الأمريكي ليقرر رفع أو خفض أو تثبيت سعر الفائدة الذي يدفعه البنك المركزي الأمريكي على إيداعات البنوك التجارية، ولكون الريال السعودي المرتبط بالدولار هو جزء من أي تبعات لرفع أو خفض وتثبيت سعر فائدة الدولار عبر المؤشر المالي، فهذا يعني أن الريال السعودي في ديسمبر سيواجه احتمالين أحلاهما مر، وهو أنه عند رفع سعر الفائدة سيصاحب ذلك انخفاض للسلع أمام الدولار ومنها الذهب والنفط. وفي ظل تخمة المعروض النفطي الحالي وتنافس أكثر من مصدر فنتوقع أن يصل سعر النفط إلى ما دون العشرين دولارا بعد رفع سعر الفائدة من المركزي الأمريكي.
أما إن كان البنك المركزي الأمريكي سيقرر -وذلك غير متوقع- تثبيت أو خفض سعر الفائدة فسوف يضعُف الدولار نفسه ويضعِف معه الريال السعودي لتصبح قيمة الريال هابطة جدا مما سينذر بتغيرات مالية جديدة تتمثل فيما يسمى بـ(التضخم Hyperinflation). إذن: نحن أمام وضع مالي صعب في ديسمبر القادم، وحله الأبرز هو أن نفك ارتباط العملتين ببعضهما، في خطوة ستنعكس بالحفاظ على الريال السعودي، ولكن بالمقابل إلى تحطيم الدولار الأمريكي، وهو الأمر الذي تحدده وتفصل فيه علاقات البلدين الإستراتيجية.
وفي السياق ذاته: فإن منظمة أوبك اليوم لم تعد كالأمس. فاليوم أصبح لدينا أوابك وليس أوبك واحدة، وهي المنظمة التي بدأ الضعف يدب إلى جسمها الممتلئ بالنفط وكثرة المعروض وتراجع الطلب مع تراجع الإنفاق العالمي. وما أتوقعه هنا هو أن أوبك سيتلاشى دورها القيادي في التحكم بسوق النفط خلال الأعوام الثلاثة القادمة.
أما (جاستا) فهو المشروع الذي ولد ميتا لكثرة العقبات القانونية التي تحول دون تنفيذه ضد حكومة معينة، ومنها السعودية. وهو المشروع الذي ربما سينحصر تأثيره في الجانب السياسي، حيث نتوقع إمكانية أن تتأخر صفقات السلاح المبرمة عند طاولات الكونغرس بحجة جاستا (يوما ما)..
ومرورا بهذا الموجز إلى القضية اليمنية، فإن خروج الصراع اليمني من شكله الإقليمي إلى شكله الاستراتيجي أمر يجب أن نتفاداه تماما.
وعن القضية السورية، فقد باتت اليوم في مرحلتها الحرجة جدا عندما أصبحت بين روسيا وأمريكا لا غير، ولم تعد الأطراف الإقليمية جميعها ذو تأثير يومي في مسار سوريا، بل أصبح الروس والأمريكان هما واقع المرحلة الحالية، ولعل المتابع بعمق لن يمرر بسهولة تلك الضربة الأمريكية للقوات السورية بدير الزور. إذن وعلى الرغم من أننا أكدنا مسبقا أن لا شيء سيتغير قبل رحيل الإدارة الأمريكية الحالية، فإن هناك شيئا يلوح بالأفق من ناحية المشهد السوري يمكن أن يتطور قريبا.
وأخيراً: فإن المتنبه لهذه الدراماتيكية السريعة -التي تأخذنا الآن في رحلة ذات منعطفات حادة- يبادر إلى الاعتقاد بضرورة رسم رؤية جديدة تخص المسار السياسي الاستراتيجي الذي قد يصبح غدا رهينا لشيء ما يلوح في الأفق...
- كاتب وأكاديمي سعودي