اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
يقول الحق سبحانه وتعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ، (191) سورة البقرة. ويقول - عزَّ وجلَّ - في السورة نفسها، الآية 217: (يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإِخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
والحقيقة، لست هنا بصدد شرح هاتين الآيتين الكريمتين من سورة البقرة، اللتين ورد فيهما وصف الفتنة بأنها أشد من الكفر وأكبر عند الله تعالى؛ بقدر ما أردت فقط التذكير بفداحة جرم كل من يسعى إلى فتنة المسلمين، ويشغلهم عن دينهم، الذي تقوم عليه حياتهم كلها، ويصدهم عنه. إِذْ جعل الله سبحانه وتعالى، صدَّ الكُفَّار للمسلمين عن سبيل الله، مع الكفر به، والعياذ بالله، وعن المسجد الحرام وإخراجهم منه، مع أنهم أهله، أكبر عند الله وأشدُّ، من قتل المسلمين للكفار في الشهر الحرام. كما ورد لفظ (الفتنة) ومشتقاته كثيراً في كتاب الله العزيز الحميد، للتحذير من الفتنة.
وحقاً، من يتأمل هذه الفتنة الهوجاء، التي تغرق فيها منطقتنا اليوم، وما جرّته عليها من ويلات وحروب ودمار وتعطيل لعجلة التنمية، واصطفاف شرقاً وغرباً، يكاد يصاب بالدوار لفداحة المصيبة التي حلَّت بنا، بسبب تدخل الأصابع الأجنبية واليد الثالثة (غير الخفيَّة) وتغلغلها في شؤون المنطقة من قمة الرأس حتى أخمص القدم؛ جنباً إلى جنب مع جيش من سماسرة الفتنة وتجّارها وعملائها الذين لا عهد لهم ولا دين، ولا حول ولا قوة، أمام بريق الدرهم ولمعة الدينار.
ومع التسليم المطلق أن الفتنة هي من صنع القوى الأجنبية الاستعمارية، التي أنشأت مؤسسات ورسَّخت علاقات ترتكز أساساً على الفتنة، وتقتات عليها، خدمة لمصالحها الذاتية الآنية، إلا أننا نسلم جدلاً أن القوى الخارجية هذه، ما كان لها أن تتحرك في فراغ، إن لم تجد من يتبنى طرحها، ويستعد لطاعة أوامرها، وتنفيذ أجندتها، نظير ما يتلقاه منها من مال وإغراءات، بصرف النظر عمَّا يلحق بعقيدته وبأهله ووطنه وأمته من مصائب. وهكذا انطلقت تلك القوى الأجنبية تحرِّك عملاءها هنا وهناك، مستغلة أوضاعاً معينة، مثيرة قضايا ربما لم يكن أحد لينتبه إليها لو لم يثيرها سماسرة الفتنة، ومحركة قوى لا بد أن يفضي تحركها في النهاية إلى صدامٍ حتمي.
والحقيقة، الأمثلة على مصائب الفتنة في منطقتنا اليوم تتعب من يحصيها، من فتنة إيران في العراق، التي قطعاً ليس أقلَّها الموقف من سفير خادم الحرمين الشريفين، النابه الشجاع الاستثنائي في بغداد، الأخ الاستاذ ثامر السبهان، فضلاً عن فتنتها في سوريا، إِذْ يوجد اليوم أكثر من سبعين ألف مقاتل من جيش الفتنة الصفوي، يذكي النار في سوريا، جنباً إلى جنب مع أكثر من عشرة آلاف مقاتل من (حزب الله اللبناني)، غير المستشارين والخبراء العسكريين؛ إضافة إلى فتنة إيران في اليمن ولبنان، التي أسست فيها دولة داخل الدولة، عن طريق يدها الثالثة (الظاهرة) (حزب الله)، فعطَّلت الحياة الدستورية فيها لأكثر من سنتين؛ هذا غير الفتنة المقيتة التي غرس بذرتها ابن غوريون هناك، فأفضت إلى حرب أهلية بين الإخوة اللبنانيين في القرن الماضي، استمرت لأكثر من خمس عشرة سنة، كادت تقضي على الحرث والنسل لولا لطف الله، ثم حكمة الملك فهد - طيَّب الله ثراه - حكيم العرب، الذي أطفأ نارها بموجب اتفاق الطائف الشهير، عام 1410هـ / 1989م، يوم رفع شعاره الحازم الحاسم الشهير (الفشل ممنوع).. الله لا عاد تلك الأيَّام السوداء على لبنان.. إلى فتنة اليد الثالثة والطابور الخامس في الصومال والسودان وليبيا وتونس ونيجيريا... إلخ.
غير أنني أردت اليوم تركيز مقالي هذا، على ما تتناوله بعض وسائل الإعلام المغرضة، عمَّا يحدث في أرض الكنانة من وقت لآخر، من فتنة بين الإخوة المسلمين والمسيحيين، لم تسلم من شرِّها حتى دور العبادة من كنائس ومساجد؛ بل أكثر من ذلك، إِذْ يصل الأمر أحياناً إلى تهديد سلامة المتخاصمين. فمصر عزيزةٌ علينا جميعاً، مسلمين وعرب، تماماً كعزَّتها عند أهلها من مسيحيين ومسلمين، التي تجسَّدت في أبهى صورها في مقولة مكرم عبيد الخالدة: (أنا مسلمٌ وطناً، نصرانيٌ ديناً)، كما أكد كل مؤرخي مصر الأفذاذ الذين قرأت لهم؛ لأنّها مقولة جامعة بحق، تحفظ للكل حقَّه في المواطنة الصحيحة العادلة بالتساوي، مع احترام حرية الاعتقاد التي كفلها الخالق للناس أجمعين.
أجل، مصر عزيزةٌ علينا جميعاً، لما حباها الله من موقع جيواستراتيجي فريد، جعلها تمثل قلب العالم ورئتيه، همزة وصل مهمة بين أوروبا وأفريقيا وآسيا؛ ولهذا تكالبت عليها الأمم السابقة، مثلما تتداعى عليها الأمم اللاحقة اليوم، كل يريد الفوز بها؛ فضلاً عن إرثها التاريخي العريق، الذي يعود لأكثر من سبعة قرون، ودورها المحوري في دعم مسيرة العمل العربي الإسلامي المشترك؛ ويمكن القول إجمالاً، إن مصر تشكل اليوم قاسماً مشتركاً بين سائر دول العالم.
أما عندنا نحن السعوديين، فلمصر وأهلها مكانة خاصة، رسَّخها والدنا المؤسس الباني، الملك عبد العزيز آل سعود - طيَّب الله ثراه - إِذْ أكد كل موظفيه الذين استعملهم لإدارة شؤون بلاده مع أرض الكنانة، أنه ما كتب إليهم يوماً بشأن مصر، ولا سمعوه يتحدث في سرٍ أو علنٍ عن مصر وأهلها، إلا بما فيه الحرص والحض على حسن العلاقة، وتوطيد الحب والصداقة بينه وبين المصريين حكومة وشعباً. بل أكثر من ذلك: رُوِىَ عن عبد العزيز غفر الله له، أثناء اعتداء دول المحور على مصر خلال الحرب العالمية الثانية، قوله: (كنَّا نسمع أخبار التعدي على مصر، وكأنه اعتداء على الحَرَم أو كأنه على أعيننا). وكل من يعلم ما يعنيه الحَرَم لعبد العزيز ولدولته، وما تعنيه العينين للإِنسان، يدرك قدر مصر عندنا.
ولهذا، ليس غريباً أيضاً أن يكون سيِّدي الوالد، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ورعاه، وسدَّد على طريق الخير خطاه - قائد قافلتنا القاصدة ورُبَّان سفينتنا اليوم، في مقدمة الجنود السعوديين المدافعين عن مصر ضد العدوان الثلاثي (الإسرائيلي - الفرنسي - البريطاني) عام 1367هـ / 1956م؛ كما أن دور الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، - طيَّب الله ثراه - ، في حرب 1393هـ / 1973م، يظل أحد أعظم مفاخر العرب إلى الأبد؛ مروراً بترسيخ علاقة التعاون الوثيقة، والأخوة الصادقة في كل عهود الحكم السعودي، التي قطعاً ليس أقلَّها زيارة سيِّدي الوالد القائد الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حُلْمُ الأمةِ - حفظه الله ورعاه - لمصر الاستثنائية يوم الخميس 29 - 6 - 1437هـ، الموافق 7 - 4 - 2016م، التي لم تكن زيارة رسمية فحسب، بل كانت زيارة تنفيذية برلمانية أيضاً، تجاوزت العلاقات السعودية - المصرية، لتجسد التلاحم العربي الإسلامي في مواجهة التحديات التي تواجهنا اليوم في أروع صورة.
ولهذا كله، نهتم نحن هنا كلنا في أرض الرسالات كثيراً بمصر، نبع الحضارات، ونتشرف بالكتابة عنها جنباً إلى جنب مع أبنائها المخلصين، فكل الأمة اليوم مستهدفة في عقيدتها، كما أكد سيِّدي الوالد الراحل الكبير، الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود - طيَّب الله ثراه - لنفضح كل تلك الأكاذيب التي تنسج الآن عن الماضي بهدف إفساد الحاضر وتدمير المستقبل؛ ردَّاً على أولئك المغرضين، مرتزقة اليد الثالثة وعملاء الطابور الخامس، الذين يروجون ليقنعوا العالم أن الطائفية في أرض الكنانة قديمة، قِدَم مصر ذاتها وتاريخها العريق، منذ أول يوم التقى فيه المسلمون والأقباط هناك على أرض النيل الخالد.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فهم إما كاذبون أو جاهلون، وأغلب الظن الاثنان معاً. فكل من قرأ التاريخ واستوعبه جيِّداً، يدرك أن الثورة التي قامت في عهد المأمون، اشترك فيها الإخوة المصريين أقباطاً ومسلمين، كتفاً بكتف. بل أصبح الوزراء من الإخوة المسيحيين في بلاط الخليفة في أول دولة دينية في الإسلام. ولم تشهد مصر عبر تاريخها العريق كله، حركة وطنية طائفية ضد العروبة أو الإسلام. بل أكثر من هذا، كان الإخوة الأقباط شيباً وشباباً، في خط النار مع إخوتهم المسلمين أثناء ثورة عرابي الوطنية، قبل الاحتلال البريطاني. وكان عرابي يُقبِّل رؤوسهم، ويأذن لشيوخهم بالذهاب إلى بيوتهم، إلا أنهم كانوا يرفضون ويصرون على النصر أو الشهادة.
أجل، فكل من يقرأ تاريخ مصر، نبع التاريخ، يجد كثيراً من الأسماء اللامعة من الإخوة الأقباط كانوا أبطالاً ورموزاً وطنية في ثورة 1338هـ / 1919م، لا تخطئها عين منصفة. وأكثر من هذا، كان راعي الكنيسة حين ينصح أتباعه، يستشهد بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، بجانب ذكر الأمثلة والحكم من الكتاب المقدس. كما مشى الإخوة المسيحيون في جنازة المسلمين وشرَّفوا مجالس أتراحهم وأفراحهم والعكس. ولم يكن الرئيس المصري الأسبق الراحل، محمد أنور السادات، رحمه الله، يرى ضيراً في أن يؤدي الصلاة في مكتب بطريرك الأقباط. بل أذكر أنني كنت مرة ضيفاً على أحد الإخوة الأقباط، خارج المملكة في مهمة عمل، وعندما تناهى إلينا صوت الآذان من بعيد، وأدرك رغبتي في أداء الصلاة وضيق الوقت، فاجأني بفرش سجادة، مشيراً لاتجاه القبلة.
هكذا هم أهل مصر منذ أن وُجدوا على ظهر البسيطة، بخلاف ما تروج له اليد الثالثة من إكراه المسلمين الأقباط لاعتناق الإسلام؛ فقد سبقهم سماسرة الفتنة وتجارها، ونبشوا التاريخ حتى انتزعوا جلده، دون أن ينجحوا في إثبات، حتى ولو حالة واحدة فقط، تم فيها إكراه قبطي واحد على اعتناق الإسلام؛ تماماً عكس ما فعلت كل من إسبانيا وبلغاريا بالمسلمين في القرنين الخامس عشر والعشرين على التوالي، فأكرهتاهما على التخلي عن دينهم واعتناق المسيحية. فما كان لمسلم صادق عاقل أن يفكر مجرد تفكير في إكراه أحد، أيَّاً كان دينه، ليتخلى عنه ويعتنق الإسلام، كما يدَّعي مرتزقة الفتنة في مصر الحبيبة، أو يفعل الدواعش اليوم.
فنحن المسلمين، نؤمن بحرية الاعتقاد إيماننا بتوحيد الله سبحانه وتعالى، الذي كفل لخلقه الحق في الإيمان والكفر: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} (29) سورة الكهف.
ولا يفوتني هنا أن أثمِّن عالياً تلك الخطوة المنصفة الذكية، واللَّفتة البارعة للحكومة الكندية، وإن جاءت متأخرة، التي اعتمدت رسميَّاً تسمية (داعش) على هؤلاء الجهلة الظالمين، الذين ملأوا المنطقة قتلاً وصخباً وفوضى، لم تشهد لها مثيلاً عبر تاريخها، ونشروا الرُّعب في كل دول العالم، فشغلوا الناس عن حياتهم. أقول، اعتمدت كندا في خطابها الرَّسمي اسم (داعش) بدلاً من (الدولة الإسلامية) لأنّها تربأ بنفسها، حسبما ذكرت، أن تربط اسم التنظيم الإرهابي بدين الإسلام السمح.. دين الرحمة والوسطية والاعتدال. فهي صدقاً لفتة بارعة بحق، لأن الإسلام بريء من أولئك الجهلة المتنطعين وأمثالهم وأفعالهم.
وبما أننا تعودنا في العالم الثالث أن نستشهد دوماً بـ (الخوَّاجات) في كل كبيرة وصغيرة، وإن كنت أؤكد امتناني وصادق عرفاني لحكومة كندا على هذه الخطوة البارعة، خاصة إعلامنا الذي لا يفتأ يجتر لنا صباح مساء ما تسبقه إليه ماكينة الغرب الإعلامية الهائلة، التي تبتكر كل جديد.. أقول، بما أننا تعودنا ذلك، أتمنى صادقاً ألا يُطلق اسم (الدولة الإسلامية) أو عبارة (تنظيم ما يُسمى الدولة الإسلامية) التي طلعت (موضة) هذه الأيَّام في كل وسائل الإعلام العربية تقريباً، أو حتى تلك الغربية الناطقة بالعربية، في أية وسيلة إعلامية بعد اليوم، على أولئك (الدواعش). وأجد في هذا جهداً حربياً نفسياً مقدراً لحكومة كندا، فشكراً لها.. ألف شكر وتقدير، ولنحذو حذوها.
كما أنتهز هذه السانحة أيضاً، لأضيف إلى هذا الجهد الكندي المشكور، مناشداً كل وسائل الإعلام في العالم الإسلامي، التخلي عن ترديد عبارات (الإسلام الليبرالي) و(الإسلام السياسي) و(الإسلام الطائفي)، وحتى (الإسلام الحضاري) وغيرها مما يردده الإعلام في الغرب من عبارات مشوشة، عزَّزت الكراهية والنظرة العنصرية تجاه ديننا في المجتمعات التي تدين بغير الإسلام؛ فنحن ليس لنا دين غير الحنيفية السمحة التي تعايش في كنفها المسلم والمسيحي واليهودي والملحد، مع اختلاف مذاهبهم.
أعود لأدحض حجة أولئك الرخيصة، مؤكِّداً أن كل من اعتنق الإسلام من الإخوة المسلمين من الأقباط أو غيرهم، لم يجد في الإسلام التسامح والتعاطف والاعتراف بحقوق الإِنسان فحسب، بل وجد فيه المسيحية الحقيقية التي بشَّر بها المسيح - عليه السلام - والحواريون من أصحابه. وحتى أولئك الذين اعتنقوا الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى، غير المسيحية، أو حتى الوثنيين، أدهشتهم عدالة الإسلام ورحمته وشموليته وصلاحيته لكل زمان ومكان، واحترامه للأديان، ونبذه للعنف والتطرف والإرهاب والطائفية وكل الشرور، ومساواته بين الخلق أجمعين في الحقوق والواجبات، ودعوته للتعاون على البرِّ والتقوى، ونهيه عن الإثم والعدوان.
إذن، الفتنة في مصر، بل في كل منطقتنا هي من فعل القوى الأجنبية، شاء أعداء نظرية المؤامرة أو أبوا. وعليه، لا أرى أي مانع ديني أو تاريخي أو عنصري، يمنع اتحاد المسلمين والمسيحيين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وانصهارهم في بوتقة واحدة، مع احتفاظ كل صاحب دين بمذهبه؛ ليس في أرض الكنانة الحبيبة وحدها فحسب، بل في كل البلدان.
فلنقطع الطريق على تجار الفتنة الذين يغذون أفكار الغرب، ويرعون بذرة الشِّقاق والفتنة والنفاق التي زرعوها في معظم دول المنطقة، وما زالوا يتعهدونها بالرعاية والعناية، لتضمن لهم السيطرة عليها حتى بعد رحيلهم عنها، والأمثلة أكثر من أن تحصى:
1 - الأقباط في صعيد مصر.
2 - حلايب وشلاتين بين السودان ومصر.
3 - جنوب السودان الذي أصبح الآن دولة يحارب بعضها بعضاً، فأصبحت سوقاً رائجة لسلاح الغرب وخبرائه ومستشاريه ومتآمريه، ومشروعاته المستقبلية للسيطرة على أفريقيا، ضمن طموحه للعودة لحكم العالم من جديد، فهو يمول اليوم المتحاربين على السواء.
4 - الصحراء الغربية في المغرب.
5 - إقليم أوغادين في الصومال.
6 - إقليم بيافرا في نيجيريا، الذي أصبح دولة انفصالية دامت ثلاث سنوات، من 1967 حتى 1970م. وعلى شاكلتها يهدد المتمردون اليوم بإعلان (دلتا النيجر) الغنيَّة، التي تمثل (70 في المئة) من إيرادات نيجيريا من النفط، جمهورية مستقلة أيضاً. فضلاً عن ممارسات بوكو حرام، مناصري الدواعش.
7 - إضافة إلى أكثر من منطقة حدودية مشتركة أحياناً بين أكثر من دولتين.
ليمثل ذلك كله، بؤرة صراع محتدم بفعل العنصرية والطائفية المقيتة، لتفتيت المنطقة وتعطيل عجلة التنمية والازدهار فيها. وإلا فليتفضل العباقرة، أعداء نظرية المؤامرة ليفسِّروا لنا مشكورين، سرَّ:
1 - ارتكاز حملة دونالد ترامب على منع المسلمين من دخول أمريكا في حال فوزه بالرئاسة؟ وتعهده بترحيل كل المهاجرين غير الشرعيين خلال الساعة الأولى من تسلمه مهماته رئيساً للبلاد؛ في حين قامت الدنيا ولم تقعد العام الماضي، عندما منحت القيادة السعودية تلك الفئة من المهاجرين غير الشرعيين، وهم بالملايين، من كل فجاج الأرض، مهلة ستة أشهر لتصحيح أوضاعهم، دون أن تطاردهم أو تحرمهم من حقوقهم. فلم تكن بلاد الخير لتلوِّح بالعصا في وجه من يوجدون على أرضها، حتى إن كان وجودهم غير شرعي.. أرأيت يا (مستر) ترامب؟ بل أرأيتم أنتم يا أعداء نظرية المؤامرة؟
2 - تبشير نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، شعبه في كل مناسبة : (إن انتخبتموني في الدورة القادمة لرئاسة الجمهورية، فسوف أمنع ارتداء البوركيني والحجاب). ولا يهم إن تعارض هذا مع شعار الجمهورية الفرنسية: (الحرية، المساواة والديمقراطية)، التي يتشدق بها السياسيون (عند اللزوم طبعاً).
3 - حرص الغرب على إنقاذ القطط والكلاب من أن تدهسها السيارات وسط الطرق السريعة أو تموت غرقاً، إِذْ يقدمون لها الإسعافات الأولية، ويستدعون الأطباء (البياطرة) ويهتفون عندما تنجح جهودهم في إجراء عمليات الإنعاش القلبي الرئوي للحيوان المسكين. وقطعاً، نحن أول من يهنئهم على هذا العمل النبيل، ويشكرهم عليه، ويشد على أيديهم ألاَّ يتركوه أبداً؛ فديننا دين رحمة، وهل أرسل رسولنا الكريم، عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم، إلا رحمة للعالمين من إنس وجن وحيوان ونبات، وحتى الجماد؟ لكن هذا لا يمنعنا أن نعيب على الغرب إغراق قوارب المهاجرين المتهالكة في عرض البحار، مع أنهم يخاطرون للنفاذ بجلدهم من أسلحة الدمار التي يتسابق الغرب نفسه في تقديمها للطغاة الجلادين، لإشعال فتيل الفتنة بين شعوب المنطقة لتفتيتها، ومن ثم استمرار سيطرته عليها إلى الأبد، من خلال تخويف بعضها ببعض. فهذه أمريكا دعمت الأكراد في شمال سوريا لسنوات، ثم استدارت اليوم مائة وثمانين درجة لتدعم تركيا ضدهم، وشواهدنا على هذا كثيرة.. من إيلان حتى عمران.
4 - صمت العالم أمام القانون الذي أجازه الكنيست الإسرائيلي الجمعة 29 - 10 - 1437هـ، الموافق 3 - 8 - 2016م، بفرض عقوبة السجن على فتية فلسطين، دون الرابعة عشرة ممن يقاومون الاحتلال، معتبراً الحد الأدنى لسن الطفولة اثني عشر عاماً فقط، في مخالفة صريحة للمادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل العالمية التي تنص على: (لإغراض هذه الاتفاقية، يعني الطفل كل إِنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة...) في الوقت الذي لم تتورع الأمم المتحدة عن إدراج اسم التحالف لاستعادة الشرعية في اليمن، في قائمة الجهات المسؤولة عن العنف ضد المدنيين، مع أنه يعمل تحت غطائها وبموافقتها، ثم ما تلبث أن تخجل بعد أن فضح السعوديون أهدافها المشبوهة، فتعدل عن قرارها. في حين غضَّت الأمم (غير المتحدة) هذه نفسها، الطرف عن أمريكا وبريطانيا، عندما اجتاحت جحافلهما العراق عام 1414هـ / 2003م، دون إذنها أو تفويضها، بصرف النظر عن موقفنا من النظام العراقي يومئذٍ.
5 - الصورة التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً لضباط أمريكيين، وهم يحتفلون (بكل فخر واعتزاز) بنجاح إلقاء القنبلة الذريَّة على اليابان، ويقطعون كعكة على هيئة السحابة التي تشكلت نتيجة إسقاط تلك القنبلة القذرة على ناجازاكي عام 1365هـ / 1945م. مع أن صورة الأطفال الذين أصابتهم وهم يركضون فزعين من لهيبها عراة حفاة، بينما لحم أجسادهم يتساقط إلى الأرض، مازالت تفزعنا من النوم كلما تذكرناها. بل أكثر من ذلك: مازالت اليابان لم تتخلص من آثار ذلك العمل الإجرامي الشنيع حتى اليوم، حتى بعد مضي أكثر من سبعين سنة.
6 - صمت الغرب أمام اغتيال أئمة المساجد هناك ومساعديهم، والتمييز ضد النساء المسلمات في سوق العمل بسبب النوع والعرق والدين؟
7 - إقحام الغرب أنفه في كل مشكلة تحدث في منطقتنا، حتى وإن كانت بين رجل وزوجته، وتلويحه بالجزرة والعصا؛ وتحديد خطوط حمراء هنا، وإعطاء ضوء أخضر هناك؛ حسبما يتفق مع مصالحه، دون أن تجرؤ أية دولة، بل حتى منظماتنا الإقليمية (جامعة الدول العربية، الاتحاد الأفريقي، مجلس التعاون الخليجي... إلخ) على إبداء الرأي في أي شأن داخلي يخص الغرب، فخلال العام المنصرم وحده مثلاً، قتلت الشرطة الأمريكية أكثر من (120) من مواطنيها السود بسبب (الاشتباه)، غير أن أحداً في العالم لم يجرؤ أن يرسم لأمريكا خريطة طريق للتعامل مع مواطنيها السود وإعطائهم حقوقهم. بل لم أسمع أحداً (يشجب ويستنكر أو يدين بأقسى العبارات) مثل تلك الممارسات. وإن شذَّ وفعل، فلن ينصت له أحد هناك.. راجعوا ردة فعل الغرب وهجومه الشرس على دولة الغابون مؤخراً، بسبب الانتخابات الرئاسية، بصرف النظر عن نزاهتها، وصدق مزاعم الفائزين أو معارضيهم.
وبعد:
أتمنى صادقاً على الغرب أن يكف عن تلك الازدواجية، والمعايير غير السويَّة في التعامل معنا، خاصة فيما يتعلق بخلطه بين الإسلام والإرهاب، وإذكاء نار الفتنة لتحقيق مصالحه الخاصة، وتنفيذ أجندته السياسية في إضعاف المنطقة لضمان استمرار هيمنته عليها بالعصا حيناً، وبالجزرة تارة أخرى، وبهما معاً حيناً آخر.
كما أتمنى أيضاً على تجار الفتنة وجنود الطابور الخامس، الخوف من ربهم، والعودة إلى رشدهم، والكف عن الاصطفاف ضد شعوبهم. ومن ثم يأتي الدور علينا نحن جميعاً، شعوب المنطقة، للتكاتف والتآزر، وعدم السماح لأولئك للتأثير على مسيرة حياتنا. فمن حقنا أيضاً أن نعيش في سلام، وتصبح منطقتنا قبلة للباحثين عن أحدث الاكتشافات الطبية، وأفضل الخدمات المصرفية، وأنجح الفرص الاستثمارية العالمية، وأروع حديقة غناء للسيَّاح، وأعظم موئل للشغوفين بالتقنية وآخر الابتكارات في العالم. ومثلما يشد طلابنا الرِّحال اليوم إلى كل قارات العالم سعياً لتحصيل العلوم والمعارف، أتمنى أن تتحول جامعاتنا قبلة للمبتعثين أيضاً. وليس هذا على الله بعزيز، إن نحن امتلكنا الإرادة، وصدقنا النيَّة، وأحسنا العمل. فقد سبق العَالِم المسلم عبد الرحمن الخازن، إسحاق نيوتن في اكتشاف جاذبية الأرض بستة قرون.. ولاسيما أننا نمتلك من الموارد والأدوات ما لم يتوافر للخازن وأمثاله من علمائنا الأجلاء، رحمهم الله، الذين سبقوا الغرب بقرون في اكتشاف ما يعيرنا به الغرب اليوم من علوم وابتكارات. فهل اتعظنا بما حدث لنا نتيجة تحزبنا وتشرذمنا شرقاً وغرباً، وعدنا إلى رشدنا لنتعاون على البر والتقوى، دفعاً لفتنة لا تصيبن الذين ظلموا منَّا خاصة؟.. أرجو ذلك.