علي الصراف
لم يحدث قط أن فقدت إيران قتيلا واحدا على أرض فلسطين، ولا قدمت أي تضحيات في أي من الحروب التي خاضتها دول المنطقة ضد إسرائيل. وعلى امتداد سبعة عقود من الزمن لم تقدم طهران أي شيء في دعم نضال الفلسطينيين من أجل إقامة دولتهم المستقلة. ومقارنة بما قدمته دول المنطقة الأخرى، فإنَّ كل ما قدمته طهران يكاد لا يعدو كونه ضجيجا لم تكسب القضية الفلسطينية أي شيء.
والقول إن هناك سفارة فلسطينية في طهران، إنما يقصد نظام «الولي اللافقيه» به أن يجعله منّة علينا وعلى الفلسطينيين، بينما الحقيقة هي أنه ما من عاصمة عربية إلا ورفرف فيها علم فلسطين، كما أن هناك العشرات من دول العالم التي تعترف بالدولة الفلسطينية وتفتح لها سفارات كنوع من الاعتراف بحق مشروع للشعب الفلسطيني، دونما ادعاءات تزيد على هذا الحد البسيط، ودونما ابتزاز دعائي قبيح.
ولئن تحاول طهران أن تدعم فريقا فلسطينيا دون آخر، فالكل يفهم أن الغاية منه، ليس دعم الفلسطينيين أو خدمة قضيتهم، وإنما بث الفرقة والشقاق في صفوفهم، وهو الأمر الذي يخدم عدوهم على وجه التحديد.
وليس كمثل كل دجل آخر، فإنَّ طهران «الولي اللافقيه» إنما تمارس حيال القضية الفلسطينية مستوى أعلى من الدجل، في محاولة رخيصة لاستدرار تعاطف كاذب، وانتهاز كل فرصة للنيل ممن بذلوا الغالي والنفيس في الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين، على امتداد كل تلك العقود.
ولو جاز للحساب أن يتجرد من الصخب الدعائي الفارغ، فإنَّ الحقائق سوف تبدو جلية لكل ناظر وبصير، ليرى القاصي والداني أن المزايدات الفجة من جانب إيران لم تقدم تضحية واحدة تستحق أن تقارن لا بما قدمه الفلسطينيون لأنفسهم، ولا بما قدمه العرب والمسلمون الآخرون.
مع ذلك، فإنَّ للضجيج وظيفتين أخريين: الأولى، هي التغطية على المشروع الطائفي الذي تديره طهران لزعزعة استقرار كل دول المنطقة. فهذا المشروع، بشع بما يكفي لكي يفهم أصحابه وأتباعه أنهم لا يستطيعون تصديره كمشروع طائفي مكشوف. وهم يدركون تماماً أنهم بحاجة إلى غطاء سميك يسمح لهم بأن يعملوا من تحته. ولا توجد قضية أكثر إثارة للمشاعر من القضية الفلسطينية في المحيط الإسلامي العريض الذي يزمع المشروع الطائفي أن يَتمدد فيه.
والثانية، هي البحث عن «شرعية» لجمهورية الدجل التي أقامها شيخ المنافقين خميني، الذي ظل يبيع بضاعة العداء للولايات المتحدة وإسرائيل، بينما كان (من تحت ذلك الغطاء السميك) يشتري الود والأسلحة من إسرائيل. وما فضيحة «إيران - كونترا» إلا وجه واحد من وجوه التعاون الخفي بين طهران وتل أبيب. وآخرها فضيحة إيلي كوهين الذي ظل ينقل قطع غيار عسكرية وأسلحة أمريكية الصنع من إسرائيل إلى إيران عبر دولة ثالثة هي اليونان على امتداد الفترة بين عامي 2000 وحتى 2004، وعامي 2012 و2013، حتى اضطرت إسرائيل مؤخرا لتسليمه إلى الولايات المتحدة لمحاكمته.
فهل كانوا لا يعرفون من هو إيلي كوهين، ومن أين يأتي بأسلحته؟
فهل اشتبه عليهم اسمه على الأقل؟ أم أنهم كانوا يعلمون؟
التصريحات التي تدلي بها طهران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل كثيرة طبعا. ولكن الوقائع ظلت، على الدوام، تقول شيئا آخر.
سوى أن هناك شيئا واحدا فقط: حزب الله في لبنان الذي يعلو ضجيج «مقاومته» المزعومة ولا يُعلى عليه. هذا التنظيم الإرهابي إنما يؤدي الوظيفتين إياهما على أتم وجه.
إيران تدعمه، أولا، من أجل أن تقلل به من قيمة كل عمل يقوم به الفلسطينيون من أجل قضيتهم الوطنية. وهذه وظيفة تخدم إسرائيل بالدرجة الأولى. فبما أن الفلسطينيين هم «العدو» وهم «كل القضية» بالنسبة لتل أبيب، فإذا ما تم استبدالهم بعدو وهمي ولا شأن مباشرا له بتلك القضية، فإنَّ إسرائيل ستظل قادرة على التعاطي والمقايضة مع هذا «البديل» بما لا يمكنها أن تفعله مع أهل القضية أنفسهم.
إيران تدعم هذا الحزب، ثانيا، ليس مساندة لما تسميه «المقاومة ضد إسرائيل»، وإنما دعما للنفوذ الطائفي الإيراني في لبنان، وهو نفوذ يناوئ كل الذين قد يقفون ضده، كما يناوئ كل الذين يدافعون عن سيادة لبنان واستقلاله.
الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي في لبنان كثر، وبداية هذه المقاومة لم يكن لها شأن أصلا مع ذلك الحزب، إلا أنه سحقهم وأبعدهم جميعا من ساحة جنوب لبنان ليس ليحتكر المقاومة لنفسه فحسب، وإنما أيضاً لكي يضفي عليها طابعاً طائفياً، ولكي يقوم بتجييرها لصالح احتلال آخر.
إسرائيل أدركت اللعبة في النهاية، وأدركت الخدمة، فتركت لحزب الله ما أقرت به له، لتأخذ ما تريد: أمن حدودها في الشمال. وهذا ما يبصم عليه اليوم حزب الله وإيران بالعشرين، لا بالعشرة فقط.
والسلام قائم. أما الضجيج، فما يزال على أشده.