د. فوزية البكر
من أقوال المؤرخ والموسوعي الشهير هنري أدمز (1838- 1918) أن أثر المعلم يمتد إلى اللانهاية.. إلى الخلود وبذا لا يمكن أبدا معرفة أين يتوقف أثره.
كم يبدو ذلك حقيقيا جدا لكلٍّ منا فمن منكم لم يتأثر بمعلم خلال سنوات دراسته؟ من أثّر فيه معلم الرياضيات أو اللغة العربية أو العلوم الدينية فجعله يعشقها وربما تخصص فيها؟ أثر المعلمين لا حدود له وهو ما جعلنا جميعا نحتفل بيوم المعلم والذي يصادف الخامس من أكتوبر من كل عام.
لكن هذه الأعوام الأخيرة تشهد تغيرات واضطرابات هائلة وخاصة في منطقتنا العربية والإسلامية تستدعي معها إعادة النظر في الأدوار المتوقعة لهذا الكائن البشري المسمى المعلم والذي يقضي مع ابني وابنك أكثر من خمس ساعات يوميا. معلم ابني وابنك هو من يستنهضهم للقدوم مبتسمين إلى مدارسهم صباحا وهو أيضا من جعل ابني (ذو الثالثة عشر) يتحدث عن شعور عميق بالذنب تجاه كل شيء بما لا ينفع معه إلا الصيام طوال الدهر! (أي مدرس وأي تدمير أن تعتقل هذه الطاقات الشابة الصغيرة في مفرخة الشعور بالذنب: أي بؤس؟ ).
هنا يجب علينا أن نؤكد على أهمية إعداد المعلم التكاملية: أي أولا في تخصصه الدقيق حتى يكون عارفا به ثم ثانيا تنميته كإنسان ثم كمربٍّ يدرك عظمة دوره الإنمائي في خلق شخصيات وعظماء المستقبل وهم هؤلاء الطلاب الطيبون الذين إما أنهم بوعيهم وحبهم لوطنهم ودرجة تأهيلهم الكفؤة سيبنون مستقبل هذه الأمة أو هم عبر تخلف وجهل معلميهم ونقص إعدادهم العلمي والمهني أو سوء شخصياتهم كمهنيين سيحطِّمون جيلا بأكمله لن يجد إلا الحروب والجهل والفقر الذي أنتجته مرحلتنا التاريخية الحاضرة.
أدوار المعلمين الحالية آخذة في التغير السريع بما يحتم على مؤسسات الإعداد وعلى رأسها كليات التربية والجامعات إعادة النظر في طبيعة المناهج وطرق الإعداد وغربلتها بحمايتها أولا من الأدلجة وثانيا ليتوافر فيها أهم المعايير العالمية المتعارف عليها في البلدان المتقدمة مثل فنلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية. لا ينفع ما تغرق فيه المؤسسات التربوية من بيروقراطية مذهلة أقعدتها عن تحريك مقرر من مستواه الدراسي أو استحداث آخر.
وفي هذه الفترة المضطربة من تاريخ أمتنا يبدو أيضا أهمية دور المعلم لبناء مفاهيم متجذرة ولا لبس فيها لمفهوم الوطنية والارتباط بالأرض. جيد أن نقوم بالأنشطة التي تعرف الطالب بأرضه وعلمه وتاريخه مثل جمع الصور والأناشيد ولبس الزي الأخضر لكن كل هذه النشاطات تظل نشاطات رمزية لابدّ أن نعمق دلالاتها لتكثف الشعور بالارتباط بالوطن في أي مرحلة ومهما كانت الصعوبات التي يواجهها هذا الوطن.
زمننا اليوم يتطلب وضوحا في تشكيل الهوية التي هي نتاج هويات متعددة تشمل القرية التي أتى منها الطالب والقبيلة التي ينتمي إليها والعائلة التي يتسمى بها لكنها في النهاية تجتمع لتخلق هوية واحدة هي هوية الطالب كمواطن سعودي. أيمن معلوف في كتابه الرائع : هويات قاتلة يؤكد على (حتمية) تجاذبات الهويات المتعددة التي ينتمي إليها الإنسان والتي في عصرنا أيضا تتجاوز الهوية الوطنية الضيقة إلى مواطنة أوسع هي المواطنة العالمية التي يجب بالضرورة العناية بتأسيس مفاهيمها في الطلاب حتى يدركوا أبعادها إذ حين انهارت البنوك في الولايات المتحدة عام 2008 كاد الاقتصاد العالمي ينهار بأجمعه وحين انخفضت أسعار البترول في منطقتنا تباطأ اقتصاديات العالم ككل فيما عدا الصين وهكذا وحين تحدث كارثة بيئية في مكان ما يحل علينا آثاره مثل السونامي تماما. عصرنا اليوم لا يؤمن بطروحات المرشح للرئاسة الأمريكية ترمب ولا بدعوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الداعية إلى اعتدادات وطنية مفصولة عن الاعتداد والعناية بالعالم ككل: المواطنة العالمية مهمة بدرجة أهمية المواطنة المحلية لما لارتباطهما من دور في نشر السلام والأمن في العالم كله.
عاش هذا الوطن آمنا وكريما وعاش عالمنا اليوم مليئا بالمعرفة والعلم والاستقرار السياسي والاقتصادي والبيئي الذي يخط معلم «ما» في قرية «ما» في فصل «ما» فصوله في كل دقيقة يبقى مع أبنائنا في المدارس.