محمد أبا الخيل
كتبت هذا المقال منذ (7) سنوات، وأكتبه اليوم بتصرف بسيط لما للظروف الحالية من تأثير على حياة الناس.
(كنا في جلسة نتحاور، وكان يقول «الرجل مسؤول عن بيته, والمرأة التي تعمل تنتقص بصورة غير مباشرة من قدرة زوجها على القيام بتلك المسؤولية, فهي تستخدم دخلها للتفوق على ما يستطيع توفيره؛ وبالتالي تزيد من التزاماته ليتماشى مع ذلك, والواجب أن المرأة تكتفي بما يمنحها الزوج ضمن مصروفاته على بيته وأبنائه وما يدخره للمستقبل». مضى على هذا الحوار 20 عاماً ونيف, وقد نسيته, إلى أن التقيته أخيرًا خلال زيارات العيد, وكان كعادته متسيدًا المجلس بحديثه وصوته الجهور، وكان يعظ بعض الشباب حوله في المجلس, ويذكر أهمية بحث الشاب عن زوجة لها راتب شهري، ويذكر محاسن ذلك، ويستشهد بحال ابنته وزوجها؛ إذ يدرّس كل منهما في قرية مختلفة، ويتعاونان على بناء أسرتهما، ويوفران لبناء مسكن الأسرة في المستقبل القريب. وعندما لحظني أدخل المجلس قطع حديثه للسلام والمعايدة، ثم عاد وقال «عندكم هذا - يعنيني - كنت أعتقد أنه أحمق عندما ترك زوجته تعمل وهو ميسور الحال, ولكن أخيرًا أدركت أنني أنا الأحمق؛ لو فعلت فعله لما بت فيما أنا فيه من قشب العيش, فراتبي لا يكاد يبلغ آخر الشهر, وأنتظر بفارغ الصبر زواج باقي البنات وتخرج الأبناء حتى أوفر بعض المصروفات». الآن صاحبنا بات يدرك أنه خاطئ, نعم هو خاطئ؛ لأنه لم يستشعر المستقبل، ولم يستطلع التحديات, كان ينظر للحياة بتلقائية تنم عن عناد واستكبار, وها هو اليوم يندم على ذلك.
الحياة لم تعد كما كانت؛ فمتطلباتها تزداد باستمرار, وضغوط الحفاظ على مستوى المعيشة المناسب تتطلب مستوى من الإنفاق، والقيمة النفعية للعملة تنحدر دون أن ندرك ذلك, وهذا لا يعني أن التضخم هو ما يستهلك الدخل بل إن الدخل يتشتت أمام كثرة المتطلبات التي تتجدد كل يوم. والأسرة تنمو كل يوم، وتختلف متطلباتها؛ فالبنت المراهقة تتطلب أكثر من الطفلة، وكذلك الأبناء، وبقدر نموهم تتسع احتياجات المنزل. كل هذه النفقات تضغط على موارد الدخل, ومن يكتفي بدخل كاسب واحد في الأسرة يضع تلك الأسرة في خطر آخر فيما - لا سمح الله - عجز عن الكسب، أو أراد الله له مكانًا آخر. وكثير من الأسر التي تعرضت لكارثة فقدان قدرة المعيل انتهى بها الأمر لوضع حزين, فإما تضطر الأم إلى عمل مهين، أو يضحي أي من الأبناء أو كلهم بمستقبلهم طلبًا للعيش, وعندما تكون الحال وفاة المعيل وصغر الأبناء تجبر الأم - في دراما الحلول النجدية - على أن تتزوج أخ الزوج أو تتزوج شخصًا آخر؛ ما يجعل تلك الأسرة الصغيرة في مهب ريح الأهواء والقدر.
إن المشاركة الزوجية في الاكتساب باتت تمثل هاجسًا لكثير من المقدمين على بناء أسر جديدة؛ فهي لا تخلو من تحديات, وأكبر التحديات هي الصياغة الشرعية والقانونية لتلك الشراكة؛ فكثير من الزوجات العاملات وبعد كدح طويل ومساهمة كريمة في تطوير بناء أسرتها ومنزلها تكتشف بين ليلة وضحاها أن الزوج قرر أن يستأثر بما كوناه معًا, وبات ينشد الخلاص منها إما بالطلاق أو التهميش. هذا الأمر في حاجة إلى معالجة نظامية؛ حتى تحمى حقوق المرأة المشاركة. والشرع لا شك يكفل ذلك، ولكن الذكورية الاجتماعية تأبى إلا سيادة قدرة الرجل على سلب حق المرأة؛ لذا لا بد لأجهزة التنظيم الرسمية أن تتولى وضع نظام متكامل، يشجع المشاركة الزوجية، ويحمي حقوق المرأة.
إن مواجهة أعباء الحياة بكاسبَيْن باتت ضرورة؛ فمتوسط دخل الموظف الرجل الذي تخرج من الجامعة، والتحق بعمل حكومي أو أهلي، وترقى بالصورة المعتادة، وحسبما تقتضيه الحال لمعظم الناس, لن يستطيع أن يكون أسرة من 5 أفراد، تسكن بيتًا ملكًا، ولديه سيارة، ويتعلم الأبناء في مدارس حكومية، ويستطيع أن يوفر قليلاً للمستقبل؛ إذ تقتطع أقساط المنزل ربع الدخل لمدة لا تقل عن 20 عامًا، ويتشتت باقي الدخل لمواجهة متطلبات حياتية عدة, دون أن يكون لجانب المتعة الحياتية أي مخصصات, فضلاً عما يمكن أن تواجهه الأسرة من عوائد الدهر التي إن وقعت ستدمر تلك الأسرة نفسيًّا وهيكليًّا.
رسالتي في هذا المقال ألا تتكل البنت المقدمة على الزواج والراغبة في تكوين أسرة على أحلام وردية بحياة جميلة تحت سقف يظلله جهد زوج شهم كريم.. نعم, الحياة جميلة، ولكن بالاستعداد لها والجد في تولي متطلباتها؛ لذا لا بد للبنت خصوصًا أن تجد في إيجاد عمل حقيقي، وأن تكون صريحة في رغبتها في مشاركة الزوج، وأن تسعى إلى توثيق تلك المشاركة قانونيًّا احتياطًا, وبهذا تستطيع وزوجها بناء أسرة سعيدة صلبة التكوين، تتصدى لنوائب الأيام؛ فتبقى متماسكة؛ لتنتج أبناء أصحاء سعداء).