د. جاسر الحربش
عندما يهب إعصار مطري مدمر على دولة من العالم الأول تكون الخسائر البشرية بالآحاد والأضرار المادية في المنازل والجسور والمنشآت محدودة وتعود الحياة إلى طبيعتها في الغد أو خلال أيام قليلة. عندما تتعرض دولة من العالم الثاني والأسوأ أن تكون من العالم الثالث، بالضبط لنفس الظروف المناخية تكون الخسائر البشرية بالمئات أو الآلاف والأضرار المادية خراباً شاملاً، ولا تعود الحياة الطبيعية إلا بعد شهور من المساعدات الدولية المالية والغذائية والطبية والهندسية وتتحول المنطقة المنكوبة إلى تجمع أممي للإغاثة وإعادة الظروف القابلة للحياة.
في الحالتين نقول ونؤمن بأن القضاء والقدر كان الإعصار والعواصف والأمطار، لكننا ندرك أن مقاييس قوى التدمير في الحالتين كانت واحدة مع اختلاف النتائج. لماذا إذاً تختلف النتائج لنفس نوازل القضاء والقدر من مكان إلى مكان؟. ألن يكون قابلاً للنقاش القول بأن نازلة القضاء والقدر في الحالة الأولى (العالم الأول) سبقها التوقع العقلاني والاستعداد الاحترازي للنوازل ليتم تحييد أو تخفيف آثارها إلى أقصى حد ممكن، أما في الحالة الثانية (العالم المتخلف) فسبقت نازلة القضاء والقدر نازلة قضاء وقدر من نوع آخر، هي الاتكاء على الجهل والاتكال على مفهوم من الإيمان السلبي يروج له في العوالم المتخلفة على أنه من كمال الإيمان.
الحديث في الموضوع يؤدي حتماً إلى الجدلية القديمة بين لزوم العقل (الحكمة) للإيمان وبين نفي العقل من الإيمان، وتصنيف من يعمل بالكيمياء والرياضيات وحسابات الأجرام السماوية ودراسات المواد الطبيعية على أنها هرطقة وتلاعب بعقول السذج والعوام بما لا فائدة منه. ما تزال في عوالم التخلف الأفضلية للنقول بتقديمها على علوم الفكر والاستنتاج.
الرجوع إلى تراثنا الفقهي منذ القرن الرابع الهجري والذي تم تدوينه واعتماده ونقله وفي نفس الوقت إحراق وتمزيق وتكفير ما سواه، يعيدنا إلى هذه المعضلة القديمة. تلك كانت النبتة التي جعلت من الاستعداد والاحتراز العلمي والفكري لنوازل القضاء والقدر (ومنها الحروب والاستعمار والاستلاب) من نواقص الإيمان بقضاء الله وقدره. التحجج بحديث أعقل وتوكل استطاع أن يعبر كل عصور التخلف كتنطع دفاعي لم يعمل به، وإلا لما تم تكفير العلم والعلماء وإحراق ناتجهم الفكري بادعاء الحفاظ على نقاء الإيمان واكتماله، فأصبح العالم الإسلامي يشتري كافة مستلزمات التعامل مع نوازل القضاء والقدر من خارجه.