د. خيرية السقاف
أستلهم كلماتي التي حُبِّرت مذ عقود, وشفقي الذي يتمادى, وقلقي الذي كما رفيف أجنحة داخل صدري كلما رأيت هدرا, وأضفته لزوادة الترف التي أنشأتُ لها على قارعة طريقي حاوية تكبر, وتكبر, والإضافات تزيد, والمجتمع لا يعبأ..
وثمة ما كان يرف في داخلي بأن ضابطا سيكون..!
الخبز المهدر, الطعام المهدر, الدواء الفائض عن الاستخدام, أثاث البيوت المرمى جوار النفايات, الشجر الأخضر يجتث, ويقلع ويرمى على نواصي الطرق، الورق يحرق عند حاويات النفايات قرب المنازل, الأبنية تتسع دون حاجة لردهاتها وحجراتها, الدواليب تكتظ بأنواع الحلي, والأحذية, والملابس, والحقائب, والعطورات, وأدوات التجميل, بل بما لا يستخدم, لكنه يُرضي غرور الدهشة في تكوين النفس البشرية,..
ولم تكن الحاوية التي أقمتها لتتسع, لكل ذلك, ولا لأصوات الصاخبة تصك أذني إحساسي عند ذهابي وإيابي, مع أنها اتسعت لتشمل أيضا أعداد العربات عند مداخل البيوت بعدد أفرادها, وكل ما يفيض في طواهر بقايا الناس..
ترف امتد به البشر للبشر !!..
فكم خادمة, وكم سائق, وكم عدد حجرات البيت لنفر لا يكادون يلجونها في الشهر ولو مرة واحدة, كل هذا الدائم في الصورة العامة تحدثت عنه بلا حرج,..
هذا الهدر المترف إلى متى,..؟
حتى جاءت القرارات الأخيرة, تلتفت لكل شيء, جاءت في جانب الضبط تجلد الدعة والترف, وأهمها ما يتعلق بالسير في الشارع وقيادة المركبة إذ كل مخالفة هي إن خرجت عن الإرادة بضرورة موقف, لكنها ضمن استهتار الدعة, وترف إمكانية السداد, ثم القرار الأخير عن هدر الخبز, ومنتجات الدقيق..!
فجدولة الشأن فيه لعلها تمتد لفرض عقوبات رمي الطعام, مع أن قبلا قد نهض نفر في البلاد من ذوي المشاعر, والمسؤولية الذاتية بمشاريع إيصال بقايا الولائم لمن يعوز..
لكن بقيت أرصفة الممرات, والشوارع في الأحياء تتحدث بصوت مرتفع عن فائض الترف, وبقايا الشبع, من شواهد الموضوع أنني وجدت ذات يوم من الشابات من يجلسن على درج السلم المفضي إلى مكتبي في الجامعة, وقد أكلن، وتركن بجوارهن بقاياهن طازجة كافية لأن تقيم أود نفر جائع, طلبت إليهن بلطف حملها لحاوية النفايات الصغيرة التي لا تبعد عنهن مترا, فأشرن لي باستهتار - وهن لم يكن يعرفنني - إلى عاملة النظافة, وقلن: «هذه مسؤولة عن هذا» انحنيت, حملت بقاياهن, أو دعتها الحاوية, وذهبت بالكاد أعبر من بينهن, لم ينته ذلك اليوم, عرفن أنني العميدة، فجئن يعتذرن, سألتهن يومها: هل الاعتذار لي أو للمقعد..؟!, وبعد حديث أمومي معهن ندمن, واعترفن بالخطأ الذي لم يكنَ يدركن أبعاده, ثم انضممن إلى مجموعة أسميتها» صديقات العمادة», مهمتها احتواء الطالبات المشاغبات, وتوجيههن, ثم تكليفهن بمراقبة الساحات, وتوجيه غيرهن لشغل وقت فراغهن في المفيد,..
الشاهد أن الترف زحف إلى الفكر, وتغلغل بثقافته إلى السلوك, ويكون علاجه بالانتباه, وتنوع التكليف, ومن ثم عقوبة.من لا يحرص.
ولئن يفعل الأفراد فيؤدون ذلك في مواقع مسؤوليتهم بدءا بالبيت, فالمدرسة, فالجامعة, فمواقع العمل, فمن يستطيع أن يفعل كبحا لهدير سيل الترف في الطرقات, والشوارع, ومداخل المدن, وحيث أي فراغ يشوه بنتائج الدعة, وفرط التواكل, وعدم الوعي, حصيلة عدم الضبط ولو بالعقوبة..؟
كان جديرا هذا الذي يحدث الآن لظروف الحالة, لكنه يجيء ملائما من أجل علاج الظاهرة بصدور القرارات الرسمية المنظمة,
في بعض موضوعاتها قرار «جدولة ظاهرة هدر الخبز, ومنتجات الدقيق», فهو قرار منطقي وضروري, على أن الدافع مأمول ألا يكون بسبب تقلص إنتاج القمح, والحد من توريده فقط, بل أيضا لضبط سلوك الهدر الناجم عن دعة الترف, وتحجيمه بقرارات عقوبات ملحقة تشمل بقية المظاهر, إن لم تكن رسمية فلتكن ذاتية يتولاها رعاة البيوت, والمؤسسات المختلفة في المجتمع..
وبها لعل الفرد أن يعيد تهيئة سلوكه وفق حاجته, ومقدرات مجتمعه للتوازن المطلوب للاعتدال,..
إن بقايا الإنسان تنم عن وعيه، وتكشف عن قدرته على الضبط بين اللازم، والفائض في احتياجه, أرى أن يلتزم بهذا كل فرد, ويجعل من ضبطه لنفسه قاعدة سلوكية تشمل بقية مستهلكاته,..
ومن الجميل أن يتبناها الفرد قرارا ذاتيا محضا, دون الحاجة لانتظار القرار الرسمي الصادر بإلزامه, ومن ثم بالعقوبة. وإلا يكون سلوك ضبطه إتقاء, وليس خصيصة يتحلى بها المرء ضمن عصبة أخلاقه.