د. حسن بن فهد الهويمل
في الطريق من [الرياض] إلى [القصيم] - وأنا أمارس هذه الأيام الرحلات [المكوكية] لمتابعة حالة ابنتي [أم سليمان] شفاها الله مما ابتلاها به، وطهرها منه، وطهرها به، وأبدى لطفه لكل مسلم مبتلى -.
في هذه الأجواء المكفهرة، عندما أعزم السفر، أشتري كل الصحف، وأصطحب معي كل ما اشتريت من مكتبات [الرياض]، التي أمُرُّ بها، لملء الفراغ الممل، وفك الاختناق المخل عن فكر مُثْقل بالهموم:- الذاتية والغيرية.
إذ ليس هناك أثقل، ولا أطول من ساعات السفر، ولا سيما إذا لم يكن معك إلا سائق أعجمي، لايحمل أحدنا الآخر.
في هذه الساعات الفارغة الصَّامِتة، أتصفح الصحف، وأقلب الكتب:- [وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزمانِ كتابُ].
وفي كل نَهْرٍ أخوضه في الصحف، وفي كل صفحة أتصفحها في الكتب، تبدو لي سَيِّئات الإنسان، بكل هلعه، وجزعه، ومَنِّه، وعجلته، وطغيانه، ولدد خصامه، وظلمه، وجهله.
وهي صفات أضفاها عليه خالقه، وأقسم على بعضها. وهو الأدرى بمخلوقه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}.
هذا الإنسان الذي لم يُسارِع إلى مغفرة من ربه {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}، ولم يستجب لأمر بارئه الذي يحييه. بل سارع إلى الفتنة، يقتل على الهوية، ويهدم البيوت على المستضعفين من أهلها، ويُخيف الآمنين، ويُهْلِكُ الحرثَ، والنسل. ويفسد ما أصلحه الله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.
والأنكى، والأمَرُّ أن العقلاء، والمجربين يعظون {قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.
والصراع الأزلي:- إما أن يكون صراعاً على الغنائم، أو صراعاً على العقائد، أو صراعاً بالإنابة، يمارسه المغفَّلون.
وخير الصراعين ما كان في جنب الله. والخيرية فيهما تكمن في الصلح، والسلام. ولهذا ندب الله إليه:- {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، وتكمن في الصفح الجميل:- {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَام فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
فالإسلام رسالة سَلامٍ. والرسول رحمة للعالمين، وليس للمسلمين خاصة. والله الذي يحرض على السلام، يحرض على القتال، لعلمه أن الإنسان، كلما استغنى طغى وتكبر {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، ولا يثنيه عن غيه إلا القوة الرادعة:- {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} وهي قوة الردع، لا قوة التدمير، ومن ثم نهى عن الاعتداء، والخيانة، ونقض العهود.
والجهاد شُرِع وسيلة، وليس غاية، وضرورة، وليس خياراً، وفي الحديث:- [لا تتمنوا لقاء العدو].
والإسلامُ المستهدف منذ عهد [ابن سلول] ومن حوله من اليهود، وممن مردوا على النفاق، يواجهُ حروبا دامية، وإفساداً لمقاصده، وتضليلا لمعتنقيه، ولو لم يكن من عند الله لأنهته أول مواجهة.
إذ كلما شارف أعداؤه على حسم المواقف لصالحهم، جأر المسلمون:- [متى نصر الله] فيأتي الرد:- [ألا إن نصر الله قريب] ومن ثم تبدو العناية الربانية، ويخسر الأعداء رهاناتهم. بعدما {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}
ففي زمن الدعوة، والرسول بين أظهر المسلمين، عاش المسلمون بين جزر، ومد. وبعد لحوقه بالرفيق الأعلى، ارتدت الأعراب، واختلف الأصحاب حول أسلوب المواجهة.
وفي أوج الحروب العسكرية جاء [ابن سبأ] يقود أقذر حرب فكرية نسل من عباءتها [الخوارج] و[القرامطة] وغلاة [الشيعة].
وبلغت تلك الطوائف ذروتها في قيام دول طائفية كـ[العبيديين] و[الحمدانيين]، و[الفاطميين]، و[الصفويين]، وتعددت الملل، والنحل.
وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، بحيث جاء زمن القبض على الجمر، والعض على جذوع الشجر، وَرَعْيِ الشويهات بعيداً عن لجج الفتن.
وكلما تنفس الأعداء الصعداء، قيض الله للإسلام من ينفي عنه التحريف، والتأويل، والانتحال، وعن أهله الوهن، والضعف، والتفرق، والفشل، وذهاب الريح.
ولو أن الأعداء انتفعوا بالآيات، والنذر، لأدركوا أن الإسلام محفوظ بتعهد رباني:- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، ومن ثم تحرفوا للصلح بدل الحرب، وانحازوا للوفاق بدل الشقاق، فأراحوا، واستراحوا.
لقد واجه الإسلام حملات [الصليبيين]، وحروب [التتار] ورغم فضاعتها، ودمويتها، فقد ثوت في غيابة التاريخ قصصاً للتفكر، وخلفت نهضة علمية تجديدية، قادها [ابن تيمية].
كما واجه الإسلام فتناً داخلية، تمثلت بافتراق الأمة الإسلامية إلى [ثلاث وسبعين] فرقة، تحولت من الاختلاف إلى التعصب، ومنه إلى [التأدلج] والمواجهة الحربية. فكان الخلاف، والمخالفة للتوجيه الرباني:- {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
ولما استبان للأعداء أن الحروب العسكرية لن تحقق النصر المؤمل. بدأت المحافل [الماسونية]، و[الصهيونية]، و[الاستعمارية] وجماعات:- [الاستشراق] و[التبشير] تعد للغزو الفكري المنظم، وتتواصى على تدمير الإسلام بيد الغاوين من أهله.
وظهر مصطلحا [الغزو]، و[التآمر] اللذان ضاق بهما المتذيلون للغرب، وبدل أن تتدفق الجيوش تدفقت الحملات الفكرية، والثقافية، وانبرى [المستغربون] يُخْربون بيوتهم بأيديهم.