ياسر صالح البهيجان
مناكفات الساسة الأمريكيين حول هويّة الضالعين في أحداث 11 سبتمبر لا يمكنها أن تقف وحدها خلف إقرار قانون «جاستا». المدة الزمنية التي تفصلنا عن الأحداث تتجاوز 15 عاما، وهو ما يطرح تساؤلا جوهريا حول توقيت إقرار هذا القانون وصلته بالتحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتحديدا فيما يتعلق بدور السعودية منذ انطلاق عاصفة الحزم التي تعد نقطة تحول في موازين القوى في المنطقة.
أخذ السعودية بزمام المبادرة في اليمن لدعم الشرعية ضد الانقلابيين دون الرجوع إلى البيت الأبيض يراه الأمريكيون تحولا خطيرا غير مسبوق يهدد مشروعهم الطامح إلى إيجاد توازنات سنية شيعية عبر دعم التمدد الإيراني في المناطق العربية، منذ أن سلّمت الإدارة الأميركية العراق لملالي طهران، ومروراً بالصمت الأمريكي عن التدخلات الإيرانية السافرة في سوريا، ورفعها غير المبرر عن العقوبات رغم عدم جديّة طهران فيما يتعلق بوقف تخصيب اليورانيوم غير السلمي، فضلا عن رفض واشنطن تصنيف الحوثي كجماعة إرهابيّة نظير صلته المشبوهة بالحكومة الإيرانية.
التحركات السعوديّة الجريئة الرافضة لرؤية أمريكية لشرق أوسط جديد جعلت الأمريكيين يبحثون عن أوراق ضغط جديدة تجعلهم قادرين على فرض السيطرة على صناعة القرار السياسي السعودي، ومن هذه النقطة بدأت واشنطن في تحريك أعضائها الفاعلين في الكونجرس للمطالبة بسن قانون معاقبة الجهات الداعمة للإرهاب، بعد أن مهدت تدريجياً بالتعاون مع بعض الصحف الأمريكيّة المأجورة في إلصاق التهم بالمملكة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر رغم أن كافّة الأدلّة تثبت براءة السعوديّة من الضلوع خلف تلك الهجمات التي يشكك خبراء أمريكيون في نزاهة الاستخبارات الأمريكيّة حيالها، وبعضهم وصفها بالمسرحيّة التي خططت لها إدارة بوش لتوفّر غطاء شرعي يتيح لها التدخل العسكري لاستبدال بعض الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية.
إقرار قانون «جاستا» أتى تحديداً لمنع السعوديّة من تكوين مرجعيّة عربيّة وإسلاميّة سنيّة في المنطقة، وتفعيل القانون في هذا التوقيت عائد إلى تغيّرات إستراتيجية فرضتها المملكة ومن أبرزها الدعوة للتحالف العسكري الإسلامي، وكانت واشنطن قد دأبت على تفكيك أي محاولة لتوحيد المسلمين عسكرياً، إذ ترى بأن هذه الخطوة من شأنها أن تهدد المصالح الأمريكيّة التي عادة ما تجري عكس التيار الإسلامي، وتحديداً الإسلام السني الذي ظل لعقود طويلة كياناً مشتتاً لا يخضع لمرجعيّة تنظم عمله وجهوده الاستخباراتية والعسكريّة، وكان التحالف الإسلامي بقيادة المملكة بمثابة الصفعة للساسة الأمريكيين بعد أن أعلنت 40 دولة إسلاميّة انضمامها إلى الحلف، وهذا العدد الضخم من الدول وما تتضمنه من قوى عسكريّة واقتصاديّة قادر على إجهاض أي مشاريع استعماريّة أمريكيّة في المستقبل، لذا ترى واشنطن بأن تضييق الخناق على السعوديّة سيفتت ذلك التحالف، ويعيد الإسلام السني مجدداً إلى حالة التيه التي تمهّد الطريق لأي تغيرات في الرؤى الأمريكية حيال المنطقة ذات الأغلبية السنيّة.
والساسة الأمريكيون يسعون كذلك إلى إيجاد قانون قادر على فرض عقوبات اقتصاديّة على المملكة لتعطيل مشروع تحولها الاقتصادي الطامح إلى عدم الاعتماد على النفط فقط، إذ إن اعتماد السعوديّة على النفط وحده كمصدر رئيس للاقتصاد الوطني يسهّل من عمليّة إضعاف جهود المملكة العسكريّة والإستراتيجية، في ظل السطوة الأمريكيّة المفروضة على منظمة أوبك، ما يتيح لها إمكانيّة التلاعب بأسعار النفط وفق ما تحتمه الظروف في منطقة الشرق الأوسط، أمّا إن قامت المملكة بعدم الاعتماد على البترول فإن خياراتها الاقتصاديّة الجديدة ستصعّب من مهمّة التحّكم بالواردات السعوديّة، وعندها تحقق استقلالا اقتصادياً ينعكس على قدرتها في صناعة القرار بما ينسجم مع مصالحها وحدها، وأكثر ما تخشاه واشنطن هو طرح حصة من أسهم أرامكو السعوديّة للاكتتاب الذي إن حدث سيصبح الاكتتاب الأكبر في التاريخ وسيدرّ على المملكة مليارات الدولارات لتصبح قادرة على إحداث أي تحوّل اقتصادي جديد.
الخارجيّة السعوديّة بذلت جهوداً مضنية لإقناع واشنطن بالعدول عن القرار احتراماً لسيادة الدول، وفي الآن ذاته تدرك المملكة بأنها قادرة على التصدّي لكل ما سيتمخض عن قانون «جاستا» لما تتمتع به من قوّة اقتصاديّة وعسكريّة وعلاقات إستراتيجية عبر تحالفات خليجية وعربية وإسلاميّة ودولية، ولن تتردد في الدفاع عن مكانتها إن قرر الساسة الأمريكيون الاستمرار في تنفيذ القرار بصيغته الحاليّة.