د. جاسر الحربش
قبل أن يجمع الإسلام أشتات العرب كانت لكل قوة عظمى في ذلك العصر حصتها من العرب. مناذرة العراق كانوا عرب فرس وغساسنة الشام كانوا عرب روم، وفي اليمن منبت العرب الأول كان هناك عرب أحباش وعرب فرس. كان ذلك قبل المذاهب، بمعنى أن ما فعلته المذاهب لاحقاًً كان قد تواجد قبلها لأسباب مصلحية دنيوية، دار الفلك دورته وعادت الأمور كما كانت، عرب فرس وروم في العراق وعرب فرس وروم روس في الشام وعرب فرس في اليمن.
الوحي السماوي باللغة العربية إلى نبي عربي جمع العرب وصهرهم، واستمرت الأمور هكذا أثناء الخلافة الراشدة والدولة الأموية ونصف الدولة العباسية، ثم انفرطت السلسلة لتعود إلى ما يشبه ما كانت عليه.
ما الذي يجعل جزءاًً تجمعه مع الكل كافة الأواصر ينحاز إلى من لا تجمعه معه سوى الجزئيات المصطنعة ليقف ضد من تجمعه معه الكليات؟. الكليات هي اللغة والجغرافيا وأواصر القربى وتاريخ الأصول، والدين كحاضن لهذه الكليات ويضيف لها أبعاداً سماوية للتعبد لإله واحد وللتعارف وتبادل المصالح المادية والثقافية. لأسباب لا علاقة لها بالدين الجامع كانت المذاهب في كل الديانات تطل برؤوسها كنتوءات متمردة على الإجماع الديني وعلى التمازج المادي والثقافي، والأهم من ذلك على الخصوصية الجغرافية والديموغرافية، تتقمص الالتزام بالدين الصحيح فتصبح الحقائق مضمرة والأكاذيب معلنة.
لا أحد، فرداً كان أو مجموعة يقطع مع أصوله ليستنبت فروعاًً في تربة أخرى عن قناعات دينية حتى لو ادعى ذلك. من يقول إن الانفصال المذهبي أصل سببي في الانفصال يكذب، لأن المذهب كان دائماًً وفي كل الأديان تابعاً لمصالح دنيوية سابقة. على غير المقتنع أن يغوص إلى الجذور التاريخية لنشأة أي مذهب منبت عن الإجماع الغالب ليكتشف كيف نشأ وبأي مبررات. المصالح الفئوية الدنيوية هي الأساس لنشأة كل مذهب وطائفة منبتة عن أصولها.
المسألة تبدأ بمنافسة (خصومة) موقف بين مجموعتين متجانستين، ثم يبدأ تجميع الخيوط ونسجها لحياكة لباس جديد. المال وملكة التلاعب بالعواطف وإثارة الطموحات والأطماع الشخصية تبدأ داخل العصبيات المباشرة لذوي الوجاهات المتخاصمة أولاً، ثم ينتشر الترغيب والترهيب والافتراءات بين الدهماء، ثم يحدث الانفصال. حالة الخصومة تتلقفها دائماًً الشعوبية من خارج أرومة المتخاصمين، فتمول وتغري وتلفق لابتداع مذهب جديد يرفع راية الصلاح والنقاء ويكفر المعسكر الآخر، وهذا المعسكر بدوره يرفع راية تخصه تكفر من كفره وهكذا يتم العبث بأصول الدين الجامع لأسباب سياسية.
النتيجة الحتمية هي الانحياز المصلحي المحكوم بالجغرافيا إلى حليف مجاور ثم التبعية له. لعله من لطف الله أن تبقى النبتة الأصلية متجذرة في تربتها الأولى، وهؤلاء هم عرب العرب عرب الأصول وعليهم رهان المستقبل. خصومة القومية الفارسية للعرب قامت وما زالت قائمة على هذه الخلفية الشعوبية.