رمضان جريدي العنزي
لم تعد لأمريكا قوارير عطر، ولا أقداح حب، ولا قيثارة عزف على وتر مجيد، ولا شموع، ولا أعمدة، ولا نتوءات بياض، أمريكا صارت سهاما ورصاصا ودسائس وقذائف حارقة، ما عادت تحب السلام، ولا ضحكات الأطفال، ولا ينبوع الماء، معاركها صارت خاسرة، وغيومها ليست ماطرة، وشمسها ليس لها بريق، وتجيد المسرحيات العابثة، يا للمهزلة، أمريكا لفها البرد والظلام، والحمق واللؤم والقتام، صارت ترياقا لا يجدي نفعاً، وحائطا ينقض على نفسه، تأكل بأسنان حادة، ما تبقى من فتات الخسائر، حالها من جزع، تخبط أعمالها، ينتابها الغرور والأنفة، وتستكين لبقايا الرماد، تستمرئ المحن، تحاول أن تلتهم آخر نقطة من ضوء النهار، أمريكا لا تأمن التآخي، ولا تعترف بالصداقات، لها ألف وجه، وألف كلام نقيض، وسبعين مقاما، كم ذلت في سبيل مصالحها الرقاب، كم أزهقت من نفوس، وجففت أنهار، كم ذبحت وتضاجعت وتظاهرت وغنت وجدفت وعرق جبينها لتجعل من نفسها سيد مطاع، كم رفعت، كم أذلت، كم صاهرت، كم آخت، كم غنت بازدواج للبلابل والسنافر والسنابل، وصدحت للقرود وطائر البوم والغراب، ما توهجت مع الياقوت يوماً، ولا مع الزمرد، ولا مع عاليات السحاب، ما عادت أمريكا فنارا، ولا سفين يقل الغريق، وجحودها غطى بريق العقيق، أفعى تلف حبائل الغدر، أضاعت فجر الحقيقة وضاعت، .. آآآآه .. يا أمريكا ، يا نائمة لا تنام، وقائمة في القيام، غدرك سيف وخنجر وحجر، تعشقين الكوابيس والرداءة والسخام، كيف تواريت خلف نصوص الكلام، وكيف عبرت إلينا من ضفة الزمان الخفي، أما تعرفين بأننا نعرف أن نغوص وحدنا، وبأننا نعرف التمدد والنماء بهذا الفناء، أما تعرفين بأننا للأخلاء أخلاء، وأن نفوسنا إباء، وأننا كاظمون للغيظ، لكننا على الأعداء شر وموت محقق وبلاء، يا لهذا النقيض يا أمريكا الجحود، كيف تزرعين الورد من غير ماء، كيف تبحثين في الظلام عن السناء، كيف تبغضين صوت اليمام، وتعشقين ليل الظلام، وتنثرين الملح فوق جرح الكلام، تشابهت طقوسك، ونما على خدود الطين خدك، واستبحتي الفجوج والمنافي، وتدعين الأرق على حمحمات الأنين!، يا قطة مستفزة، تصارع هوساً من نسج أحلامها، أيتها المستبدة، إلا متى وسعيرك لا يهدأ، ومواسمك عواصف، وأحلامك جذام، إلى متى صراخك لا ينام، إلى متى وأنت تستفزين التواريخ، وتركلين الصديق، وتقاومين الأصباح، إلى متى وأنت براكين فتنة، ونبوءات من دماء، سلالات من موج همجي، يداعب الحمرة الداكة، إلى متى تتلذذين بتحطيم مصابيح الأمل، وتوقدين مداخن الكراهية، ودسائسك العارية تفضحك، إلى متى وأنت تكتبين للنهايات فصولا، لقد طفى ماءك على الماء، ومضت نارك للنار، وانكسر جدارك على الجدار، وبعد هذا الانحراف والغدر والالتواء: ستصبحين عشباً جافاً لا أحد يستطيع أن يمشطه، هذا هو قدر المتكبرين في الحياة، سينتهون وينتهي صوتهم ولونهم معاً، مثل قدح مثقوب تنسكب منه القطرة تلو القطرة، ستصبح شفتاك يابستين، تبحثين عن بعض ارتواء، ستصبحين مثل عصفور يحط على النوافذ تعباَ، يفتح منقاره، وآثار اللهاث عليه، وصدره في ارتفاع وانخفاض، ستصبحين مثل مريض أثقله الإعياء، يبحث عن كوز ماء، يا أمريكا التي لم تعد منارة للضياء، ولا بلورة، ولا حاضنة للفراشات الرفيفة، لم يعد لك عندنا شيء، بعد أن تحولتي سيل نار، وحكايات رزايا ومحن، وكوابيس وألوان كفن، وأنت التي كلما بزغت لنا شمس أطفأتيها بالفتن، فأعرفي أن موطني بحر، وشراع طامح، ويقينه ثابت، ورسالته مصباح ظلام، سيهيل النور نورا، في سمو يتدلى، سيمنح للبرق معنى، سيكون معنى، سينثر اللقاح في موت المواسم، سيمضغ لبان المجد، ويرقب تباشر المهابة، فارحلي أنت مع تضاريس الخيانة، كوني مثل ثكلى تنتحب، وأدمني شراء الضمائر، عند بوابات النسيان.