لأِنها تُحبُّهم قرَّرَّت أن تُضحي بِنفسِها لِأجلِهم...
اقتَرَبَت من النَّار المُشتَعِلَة التي بدأت تلتَهِم كُلَّ ما في المنزلِ البسيط من أثاث لِأجلِ
فتحِ البابِ الحديديَّ الموصَدِ كي تُنقِذهم من الاحتراق...
لِأنها تُحبُّهم أبعَدَتهم عنها وعن النِّيران...
ولِأنها تُحبُّهم أيضاً تحوَّلَت لِجَسَدٍ محروقٍ بعدَ أن فارَقَتهُ روحُها لِمَثواها الأخير..
لِأنها أمّ ستُواجِه الموتَ بِأشكالِه من أجلِهم...
ولِأنَّ الأطفال الخمسَة لم تتحمَّل رئاتُهم الصغيرة ذاك الدُّخان الكثيف مَشَوا خلف خُطى
أُمِّهم نحو النهاية المُحتمة، ولكن بطريقةٍ مُختَلِفة.. بالاختِناق!!...
وكأنَّ اللَّه استجاب لِتوسُّلات الأم كي لا يموتَ أطفالها حرقاً...
ولكن قدرهُم المكتوبَ لم يتغيَّر، فماتوا خنقاً...
لم يخطُر بِبالها قط بأنَّ ماسَّاً كهربائِيّاً سيحدُث ويفعلُ كُلَّ ذلك...
ولم تُفكِّر يوماً بأنَّ النِّهاية ستكون بهذه الشاكِلَة.. نِهاية جماعيَّة مع فِلذاتِ كبِدِها إلا
من أكبرِهم...
من يستطيعُ التفكير أصلاً بهذا الأمر.. إنه أمرٌ إلهي وغيبي ليس لنا منه شيء
سوى الرِّضا والتسليم لِأمرِه؟..
فرُغم مُحاولات الأم الكثيرة بِفتحِ ذاكَ البابِ الحديدي من أجل الخروج وأطفالِها من
بينِ ألسِنَةِ اللهب، بقِيَ البابُ صامِداً موصَداً ومُغلَقاً على ما كُتِبَ عليهم من نهاية..
- يالَ قسوَةِ الحياة أحياناً.. غُرباءٌ هربوا من حربٍ طاعِنةٍ لِيلقوا حتفهُم حرقاً واختِناقاً
في بلدٍ عزيز!!...
ألم يكفِ ما احترَقَ ومن احترقَ واختنق في بلادي؟...
حسناً.. أعلَمُ أنها إرادة الله.. وأنَّه من الواجب التسليمُ لِأمرِه وقول
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}...
ولكِنَّ الأمرَ مُحزِنٌ ومُؤلِم...
مُنذُ أن علِمتُ بالأمر وأنا مُحطَّم ومهزوم، بكَيتُ كل ليالي غربتي فقداً وألماً...
بَكَيتُ كما لو أنهم أهلي وعائلَتي..
كُلَّما تخيَّلتُ الأم الخائفة وأطفالُها.. حشَرَت غصَّةٌ نفسَها عُنوَةً في حلقي..
وسرَت دموعي حارِقةً وجنتاي.. وسَرَت قشعريرَةُ خوفٍ لاذِعٍ في جسَدي..
كلَّما مرَّت بِذاكِرتي اختنقتُ أكثر واستوطَن رأسي صوت بكاءِ رضيعِها...
تراه كم بكى وصرخ حتى خرَجَت روحه وانتهى؟...
الأطفال.. نقطة ضعفي وألمي...
لم يزِد انهياري سِوى حجمِ الفقدِ والفراغِ اللذين سيُرافِقانِ الأب وابنَه اللذَين بقِيا وحيدَين
مقهورين ومُتألِّمَين.. ومصدومَين من مفاجأةِ القدر الفظيعة...
جميعُنا نخافُ ونهلَعُ من الفقد، مِن أن يفقِدَ أحدُنا أغلى من يملِك..
وهما واجهاه الآن وغرِقوا بصمتهم...
فلم يفقِدا شخصاً واحِداً.. فقدا عائلة!!..
زوجة وأما وإخوة وأبناء.. فقدوا الحياة بِغربتهم.. وأي فقدٍ أقسى من ذلك؟..
كُلَّما حاولتُ تقديرَ خسارتِه الفادِحة لا أستطيعُ أبداً.. فخسارتُه وابنه لا حدود لها..
كُلَّما تذكَّرتُهما تمنَّيتُ لو أنَّ باستِطاعتي مواساةَ فقدهِما وقلبَيهِما المكسورَين...
لو أنَّ باستِطاعتي إخبارَهُما بأن «لا تحزنا، فاللَّه اختارَكما ليمتَحِنكما لأنه يُحبكما..
فيا لَحظِّ وسعادة من أحبَّه الله.. ربما آلمَكُما بفقدِكما في الدنيا، ولكن ماذا عن فرحِكما في
آخرَتِه وجنَّتِه؟؟...
واختارَ الزوجة والأطفال لِيكونوا شُهداءَ، وربما ليكونوا حُجَّة لكما لِتسكُنوا جنَّته»
ليتَني أستطيعُ التَّخفيف عنكُما وإغراقِكما بِبحرٍ من الصَّبرِ يُضمِّدُ جِراحكما...
ولكنَّني لا أستطيعُ فِعلَ شيءٍ سوى الدُّعاءِ لِله القادِر على كلِّ شيءٍ لِأجلهم...
يا الله.. كُن معهُم وداوِ فقدَهما، فحجمُ وِحدتِهما وصدمَتهما كبير لِلحدِّ الذي لا
نهايةَ له...
يا الله.. أمطِر عليهما صبراً وثباتاً واجعل لهما من ضيقِهما مخرجاً...
ولِأرواحِ من رحلوا رحمةً وسلاماً، وتقَبَّلهم شُهداء عندك...
لم أكتُب ما كتَبتُ سِوى تعبير عن ألمي وحزني ودعوة للرحمة لمن رحلوا والصبرِ
والثباتِ لِمن بقي..
** **
- فاضل عبداللطيف فرحات