إبراهيم عبدالله العمار
هل الثورات مجدية؟
سؤال شيق، ناقشه كتاب «دروس التاريخ» للمؤرخ ويل دورانت، يلخص كتابه «قصة الحضارة»، الذي دوّن فيه التاريخ الغربي في 10 آلاف صفحة. وفي «دروس التاريخ» رأينا في هذا العمود بعض أجزائه. وهذه المرة سنرى قطفة من الجزء العاشر من الكتاب، الذي يتكلم فيه المؤلف عن الحكومات في التاريخ البشري، وكذلك الثورات.
يقول ويل: إن الإنسان يحب الحرية، والحرية تحتاج لضوابط؛ لهذا فإن أول شروط الحرية تنظيمها وإلا ماتت في معمعمة الفوضى، وهذه مهمة الحكومة؛ فالقوة المركزية المنظمة هي البديل الوحيد للفوضى الشاملة التي يتحكم بها نفر قليل من ذوي النفوذ. بعد أن اضطربت الديمقراطية الرومانية إثر الحروب الطبقية من عصور الجنرال غايوس ماريوس (157ق م) ويوليوس (100ق م) أتى أغسطس قيصر فصنع الإمبراطورية الرومانية وهي - في رأي دورانت - أعظم إنجاز في تاريخ الحكم البشري، وحفظت الأمن من 30ق م إلى 180م في دولة عملاقة.
أكثر الحكومات التي تعتمد على حكم الأقلية يتم اختيارها إما بالنسب (كالأرستقراطية) أو الدين (ثيوقراطية) أو المال (ديمقراطية). كما قال روسو فإنه من غير الطبيعي أن تحكم الأغلبية؛ لأنها لا يمكن أن تتوحد لتنجز أهدافًا بينما الأقلية يمكنها ذلك.
والآن السؤال الكبير: هل التاريخ يحبذ الثورات؟
يقول ويل: إن الإجابة في بعض الأحيان نعم، فبعض المؤسسات شديدة الرجعية والجمود، فلا ينفع معها غير هذا، مثل الثورة البلشيفية، لكن في معظم الأحيان فإن الثورات لا حاجة لها لأن مقاصدها ستتحقق حتى بدون الثورة. أمريكا كانت ستكون الرائدة في العالم الإنجليزي حتى بدون الثورة عام 1776م. الثورة الفرنسية الدموية أحلت التجار (المتحكمين بالمال) مكان الأرستقراطيين المتحكمين بالأراضي، لكن هذا ما حصل كذلك في إنجلترا في القرن التاسع عشر بدون ثورة ولا إراقة دماء. كما أن المرء تكمن صحته العقلية في الاحتفاظ المتواصل بذكرياته، فإن السلامة العقلية للأمم تكمن في احتفاظها بتقاليدها، وإلا فلا يأتي من هذا التغيير الكبير المفاجئ إلا ضرر كبير مثلما حصل في المجازر الفرنسية عام 1792م. الثورات لا يأتي منها توزيع الثروة، وإنما تدمير لها وللمال العام، وأقصى ما يأتي منها هو بعض التوزيع للأراضي. الثورة الحقيقية هي التنوير العقلي وتحسين شخصية الأمة. الديمقراطية نجحت في أوروبا وأمريكا، وحسنت أوضاع الناس اقتصاديًّا وسياسيًّا، لكن إذا أتت الحرب فستسيطر على الديمقراطية وتمتصها، وسوف تختفي الحريات واحدة تلو الأخرى فيما لو صارت الدول ترغب في مؤسسات عسكرية ضخمة (وهذا ما يحصل الآن في أمريكا)، وإذا فشل الاقتصاد الحر في توزيع المال فإن الدكتاتورية ستكون سهلة لمن يعد بالأمن للجميع، وستأتي حكومة عسكرية تحل محل الديمقراطية، وتغلف نفسها بشعارات جذابة.
كل هذه حصلت من قبل، وستحصل دومًا، فنحن جزء من التاريخ.