محمد سليمان العنقري
قرار مجلس الوزراء الموقر الموافقة على ما رفعته وزارة الخدمة المدنية من هيكلة شاملة لبدلات منسوبي القطاع العام، التي تضمنت إلغاء العديد منها، وتخفيض وتقنين بدلات أخرى، لا بد أنه يعد الحدث الأبرز في التحولات في الثقافة السائدة نحو الوظيفة الحكومية ومدى جاذبيتها حاليًا ومستقبلاً؛ إذ بقيت الحكومة هي الموظف الأكبر للكوادر البشرية الوطنية لعقود، لكن بالتأكيد سيشهد المستقبل تغييرًا جذريًّا بأولوية الوظيفة الحكومية بتوجُّه شباب الوطن كخيار أول، ساد حتى وقتنا الحالي.. لكن يبقى لقياس الآثار المترتبة على هيكلة البدلات أهمية كبرى لقياس التوجهات، سواء الاستثمارية بالاقتصاد المحلي، أو بمعرفة طرق الحكومة لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية التي تنعكس على اقتصادنا سلبيًّا منذ نحو عامَيْن.
مما لا شك فيه أن هبوط أسعار النفط ودعم شرعية الحكومة اليمنية بخلاف الأوضاع الجيوسياسية لها تأثير كبير على الإنفاق الحكومي؛ إذ زادت المتطلبات، وكان لا بد من مواجهتها بإجراءات عديدة، كان أبرزها إطلاق رؤية 2030م، والبدء ببرنامج التحول الوطني نحو دور حكومي إشرافي رقابي، يتخلى عن جزء كبير من امتلاك مفاصل النشاط الاقتصادي مما كان يعني بالضرورة تغييرًا جذريًّا بالإنفاق العام، وتقليصه، ودعم التوجُّه للقطاع الخاص والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة؛ فالمملكة تمتلك قوة مالية ضخمة من خلال احتياطياتها التي بنتها في السنوات الماضية، وتتجاوز حاليًا 2.1 تريليون ريال، بينما الدَّين العام منخفض جدًّا، لكن كل ذلك لا يعني أن الاقتصاد سيكون بأمان لفترة طويلة إذا لم يكن هناك تحرُّك جاد، يضبط النفقات، ويرفع الإيرادات، مع أمل بتحسُّن نسبي لأسعار النفط، إضافة إلى حلول للملفات السياسية بالمنطقة.
ولذلك فإن هيكلة البدلات تُعَدُّ جزءًا مهمًّا من معالجة النفقات العامة، لكن يبقى السؤال: هل تم قياس الآثار المترتبة عليها بكل أبعادها لمعرفة أين ستكون الإيجابية والمصلحة العامة أكبر؟ فرغم عدم ظهور أي رقم رسمي حول حجم الانخفاض ببنود البدلات إلا أن التقديرات تصل لعشرات المليارات؛ إذ قُدرت بين 50 و130 مليارًا سنويًّا، لكنها تبقى مجرد اجتهادات، ولن يتم معرفة حقيقة الأرقام التي تم توفيرها إلا مع صدور الميزانية العامة القادمة بعد نحو شهرين تقريبًا، لكن يمكن قياس الآثار السلبية الأولية؛ إذ سيتقلص دخل الأُسر؛ كون أغلب القوى العاملة بالمملكة بالقطاع العام؛ ما يتطلب وقتًا ليس بالقصير؛ حتى يتكيفوا مع الدخل الجديد. كما برزت فورًا إشكالية من اقترضوا من البنوك بناء على تقدير الدخل كاملاً؛ ما اضطر مؤسسة النقد للتدخل وإصدار تعليمات للبنوك بإعادة جدولة القروض الاستهلاكية، فيما ستبقى للقروض العقارية على الأفراد ممن انخفض دخلهم المشكلة الأكبر نظرًا لارتباط سداد القرض بعمر المقترض أن لا يتعدى 60 عامًا عند سداد آخر قسط، بينما بالهيكلة لهذه القروض قد تحتاج إضافة عشرة أعوام على الأقل؛ ليتناسب القسط مع اشتراطات الاستقطاع الرسمية لهذا النوع من القروض، وهي ستكون إشكالية كبيرة بالتأكيد؛ فمما لا شك فيه أن القطاع المالي سيتضرر نسبيًّا لأسباب عديدة، ليس فقط بإعادة هيكلة الديون وتغيير موعد استرداد أموال القرض ليعاد تدويرها بقروض أخرى، بل حتى بحجم الإقراض للأفراد مستقبلاً، الذي سيتراجع.
أما القطاع الآخر الأكثر تضررًا فهو التجزئة الذي كان يعد الأكبر نموًّا لسنوات، وتجاوز حجمه 440 مليار ريال؛ فإن هذا القطاع سيتأثر بشدة؛ ما سينعكس على تقليص ليس فقط حجمه بالناتج المحلي بل إغلاق عدد ليس بالقليل من المحال؛ وهذا يعني تراجعًا بجاذبية الاستثمار العقاري التجاري؛ إذ يتوقع أن تشغر محال كثيرة؛ ما يؤدي لانخفاض الإيجارات أيضًا، والعزوف عن أي استثمارات جديدة بالقطاع، بينما ستتأثر معدلات البطالة سلبًا بتوقع ارتفاعها؛ إذ كانت تعول وزارة العمل على هذا القطاع كثيرًا بتوظيف المواطنين من العاطلين فيه من الذكور والإناث؛ إذ سيتوقف نمو الوظائف المولدة فيه، بينما قد تقفل محال توظف مواطنين لضعف القوة الشرائية، أو تقليص عدد الموظفين. وفي كل الحالات لن يكون هذا القطاع داعمًا لحلول البطالة؛ فقد تلقى القطاع ضربة أولى موجعة عند تقلص الإنفاق على المشاريع العامة؛ ما أثر سلبًا بالقوة الشرائية من العاملين بقطاع المقاولات الذين يشكلون نحو نصف العاملين بالقطاع الخاص، مع تراجع أيضًا بمشتريات منشآت القطاع نفسه، بينما تتحقق إيجابية واحدة فقط هي تقلص حجم التستر التجاري؛ إذ يعد هذا القطاع الثاني بعد المقاولات بنسب التستر المرتفعة بين القطاعات الاقتصادية كافة. وسينسحب التأثير بتراجع نمو قطاع التجزئة على قطاع الإعلانات، وكذلك الخدمات عمومًا.
كما أن من الآثار السلبية ضعف الإقبال على ضخ الاستثمارات بالسوق المالية؛ فتقلُّص الدخل سيعني عدم القدرة على التوفير؛ وهذا سيقلل من التوجه للاستثمار بالسوق المالية، سواء الاكتتابات أو الفرص المتاحة بالسوق، بخلاف أن التوقعات هي بتراجع أرباح قطاعات عديدة مع التحولات بالسياسات المالية والاقتصادية منذ أكثر من عام بالمملكة. كما أن من بين أهداف الرؤية الوصول لنسب ادخار للأسر، تصل إلى عشرة في المئة من ستة في المئة حاليًا، فكيف سيتحقق ذلك مع تراجع الدخل والتوقعات بارتفاع تكاليف المعيشة؟!
كما أن الموظفين الذين خُصم منهم بدل السكن الذي كان يدخل بالراتب المسجل لدى التأمينات الاجتماعية لسنوات طويلة سيعتبرون قد دفعوا استقطاعات تأمينية على مبالغ لم يستفيدوا منها مستقبلاً عند تقاعدهم؛ فدخلهم تقلص بحدود 25 %، والتأمينات الاجتماعية استفادت فعليًّا من أموال استثمرتها بتلك الاستقطاعات، ولن يستفيد منها المشترك عند تقاعده نظرًا لتراجع دخله بنسبة ليست بسيطة، تحتاج إلى وقت حتى يتم تعويضها من العلاوات السنوية التي ستتوقف عامًا كاملاً فقط، حسب القرار الصادر.
أما الإيجابية فتنحصر تحديدًا في أن الحكومة ستتمكن أكثر من مواجهة تحديات تراجع أسعار النفط فيما لو طالت عن التوقعات، ولن تضطر لطباعة نقد أكثر؛ كي لا تصل لمرحلة حتى لو بعد عامين أو أكثر قليلاً لاستنزاف أغلب الاحتياطيات، والاضطرار لسياسات هي بغنى عنها، كخفض قيمة الريال، أو التوسع بالاقتراض لمعدلات تفوق المعايير العالمية قياسًا بالناتج المحلي؛ فسلامة الأسس والركائز الاقتصادية سلاح قوي في مواجهة التحديات الاقتصادية لعبور الأزمة الاقتصادية العالمية؛ حتى تتمكن الحكومة أيضًا من رفع الإيرادات الأخرى، وكذلك تطبيق سياساتها الاستثمارية السيادية، وكذلك التوسع بدور القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات، وبمعنى أشمل تطبيق برنامج التحول الوطني الذي سيواجه بالتأكيد تحديات عديدة، تتطلب الاستعداد الجيد لها.
هيكلة البدلات أحد الحلول للمالية العامة وتوجهات السياسات الاقتصادية عمومًا، وقد يكون منبعه أيضًا ربط طبيعة الوظيفة بما تستحقه من بدلات، لكن أيضًا النظر لتحقيق الإيجابية الأكثر شمولاً له أهمية كبرى بتقليل السلبيات على الاقتصاد؛ فما تحقق من مكاسب بنمو ونهوض قطاعات وأنشطة اقتصادية لا بد من الحفاظ عليه؛ لأنه أساس لانطلاقة قوية نحو نمو متوازن ومستدام وصحي، ولا بد من الربط بين ما أُقر من عموم السياسات المالية والاقتصادية وبعض أهداف الرؤية، كتفعيل دور القطاع الخاص ونسب تمثيل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وجذب الاستثمارات للسوق المالية، ورفع نسبة الادخار، التي تتطلب أجوبة من وزارات رئيسية مسؤولة عن تحقيق أهداف الرؤية، كوزارة الاقتصاد والتخطيط، حول تأثير ما أُقر على الوصول لتلك الأهداف الاستراتيجية.