د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يحدث في الخامس من شهر أكتوبر من كل عام احتفاءٌ عالمي بالمعلمين, تخرج فيه تلك المهنة النبيلة من حيّزها الوظيفي الذي لبسته عنوة إلى منصات المصطفين من أرباب المهن, وحتى أحصد مع زملائي المعلمين لقاء تعارف حضارياً، فقد حرصتُ أن يكون اللقاء معتقاً لما كسبَته تلك المهنة الشريفة من بطاقات التأثير على الإنسان منذ بزوغ شمس الحضارات فكانت لي وقفة افتخار مع مقال نُشر في العدد الأول من «مجلة الجزيرة» من عام 1379 بعنوان (كنّا وكان أساتذتنا)، كتبه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري - رحمه الله -، يقول: (لقد كنا طلبنا العلم للعلم وحده، لا نبتغي من ورائه وظيفة ولا مالاً, بحسبنا أن نتعلم, وأن ننير مظلم أدمغتنا, لنشعر بالعزة والكرامة, وكنا نجهد أنفسنا كل الاجتهاد في التحصيل، فنسهر الليل حتى يكاد ينشق عمود الصبح, على مطالعة كتاب أو كتب، أو نسخ كتاب أو كتب، أو استذكار كتاب أو كتب, على ضوء شاحب متهافت, منبعث من مصباح غازي من الصفيح, يرسل علينا نوره الخافت مع دخانه القاتم الذي يؤذي العيون, ولا يتورع عن إيذاء الصدور.
وكنا مؤدبين مع أساتذتنا، نجلَّهم، ونحترمهم، من أعماق قلوبنا، ونتدارس سيرهم، ونعجب بعلمهم وورعهم، وتفانيهم، وكانوا يحبوننا، ويسرون من جدنا، ويشجعوننا على بذل كل غالٍ ومرتخص لتحصيل الهدف المنشود, وكان إعجابنا، وتقديرنا لهم منبثقاً عن شعورنا العميق بأنهم هم الذين يهبوننا المعرفة، والحياة المتسامية، وما كانوا حريصين على جمع الدنيا، ولا كانوا متكالبين عليها، إنها في وادٍ, وهم في وادٍ آخر، وكانوا يتقاضون من المدرسة رواتب محدودة غاية أمرها أنها تؤمِّن لهم قوت الكفاف شهراً بشهر، وكانوا مع ذلك يشعرون بمنتهى السعادة من هذه الكفاية الكبيرة، فكانوا يرون المادة وسيلة لا غاية، ولذلك ما كانوا يهتمون بأمرها لا في قليل ولا في كثير وكان تعليمهم ناجحاً، وكان إنتاجهم مباركاً موفقاً، لأنهم يعلّمون بقلوبهم قبل ألسنتهم، وبسمتهم قبل قولهم، وكانوا يرون في طلابهم (نحن) صوراً مصغرة من صورهم, ومرايا تنعكس عليها صفاتهم, ولذلك كانوا مدفوعين بطبيعتهم المثلى إلى تعليمنا بحق وعناية عميقة، وكانوا يرون ما يقومون به في السبيل أمراً مهماً يُمثّل شيئاً من وقاية الدين أن يضيع, والعلم أن يزول, والوطن أن يتفكك, وذلك بضمان تسلسل العلم بواسطة التعليم نفسه، منهم إلينا, ومنا إلى من بعدنا, كما تسلسل العلم من أساتذتهم إليهم، وهكذا دواليك صعوداً إلى الأجيال الماضية, وهبوطاً إلى الأجيال القادمة...إلخ)
ذاك جزء من المقال؛ وفيه جليل من قواعد المهنة فالتعليم واجب وليس سلطة، وهو منظومة معرفية وحضارية وأخلاقية، والمدارس مصانع تعمل على خطوط إنتاج يسيّرها المعلمون فهم من يستطيعون إيجاد معادلة التّلقي السليمة فعندما يسيطرون على عقول الطلاب وقلوبهم لن تنفذ منها الخفافيش - بإذن الله -، وقيادة مشاعل المعرفة من قِبل المعلمين لا بد أن تتم وفق طقوس سامية لا تشبه شيئاً مما تُدار به ممكنات الحياة الأخرى، فتلك المعرفة يحملها المعلمون الأذكياء الأوفياء وبين أيديهم تصبح مثيرة محمّلة بالجديد والمدهش ولكن يجب أن لا يستزرع المعلمون المعارف في الأرض اليباب، فالتعلم العظيم يحتاج إلى معاناة عظيمة في تعديل المسارات وتجويد الفكر المصدّر إلى عقول المتعلمين, ومن ثم اليقين بأن التعلُّم ليس ناتجاً عن التدريس، بل نتاج نشاط وتفاعل حي بين عقول الطلاب وممكنات المعلمين المعرفية مما يكون الشراكة المقبولة لبناء مستقبل المدارس.
وختاماً تحية وافرة للمعلمين في يوم تتويجهم.
ويطيبُ لي جني المفاخرِ أنني
كنتُ المعلم في السنين الأولى