د. صالح بن سعد اللحيدان
ليس بوسع المرء خلال الدراسات المتمكنة الطويلة ذات الأبعاد العلمية البحثية أن يكون قاضيًا ما لم يكن لديه ذلك الاستعداد النفسي والاستعداد العقلي، حتى لو درس وحقق ونظر العلم زمنًا طويلاً.
ذلك أن حقيقة الأمر عبر الدراسات والبحوث المتخصصة أن الموهبة في هذا السبيل أصل لا بد منه.
وأجزم - وليس هناك منافح - أن هناك فرقًا شاسعًا بين من يحكم ويجلس للقضاء ويفصل في الخصومات، وذلك الذي يحقق ويكتب ويقرر. وهنا لا يتفق هذا وذك حسب السبر ودراسة الأحوال. ولا شك أنه عند التحليل العلمي الدقيق والإجراء النفسي الطويل الجيد والمتين من يحكم ويفصل في الخصومات ويزاول القضاء في مجلس القضاء إذا كان موهوبًا فإن الموهبة تستعدي ما يحتاج إليه كافة من أمر.
ذلك أن هذه الموهبة لها قدرة في أغوار النفس وعمق العقل على النظر المدرك الواعي بحيث القاضي يحكم من خلال الدهاء السليم وسعة الفطنة وقدرة الإدراك لما بين يديه، واستدعاء دلائل الآثار والنظائر والأشباه بواسع من عقل فطين.
وما كثرة الاطلاع وتدبر العلم والاستشارة إلا من الروافد. وكم ذكرت لطلابي في الدراسات العليا وخلال الندوات العلمية الدقيقة مثل هذا، وأنه لا بد من الموهبة؛ لأنها تعطي صاحبها من الوعي وصدق النظر وقوة القياس الصحيح الشيء الذي لا يكاد يفطن إليه إلا النوادر من المتابعين من الساسة ومن تعنيهم هذه الحال.
ولا يحسن الخلط هنا، وأكرر هذا دائمًا بين قوة الحضور والمتابعة وحب الخير والحرص عليه، والموهوب الذي يجلس في القضاء؛ ذلك أن عادة الموهوب - وهي سجية غالبًا - لا ينفك عنها التواضع حتى في السكن واللباس وبساطة العيش، وحتى وأنت تحادثه تظن أنه عادي الحياة بين الموهوب الفاصل والقاطع عن احتدام القضايا وتزاحم الأمور بصرف النظر عما يقال عنه من وشاية خاصة من القريب أو من الزميل. يقول أبو جعفر المنصور «إنا لا نسأل القريب عن قريبه ولا نستشيره ولو كان وجيهًا».
ومن العجيب في مثل هذا - أعني الموهوب - إذا تهيأ له الجو أنه يستطيع النظر في خمس حالات قضائية في يوم واحد دون تأجيل أو معاودة، وله من قوة النظر وسعة العقل واستنطاق الحال ما قد يخال للحاضر أو يخال للسامع أنه ضرب من الخيال، بين ما ذاك حق لا مرية فيه.
واستكشاف هذا النوع صعب جدًّا. المشكلة هنا كاملة في الخلط بين حال وحال، وصفة وصفة.
ولهذا يحرص الساسة عبر القرون على القبض على هذا النوع دون نظر على حب له أو كره له؛ ذلك أن الموهوب ينفع ولا يضر، يعطي ولا يمنع، يبذل ولا يقصر، يحذر الحذر كله من مخالفة ولي أمره في حالاته كلها نشدانًا لحفظ الأمن وسيادة الطاعة وصدق الولاء وتحريه.
ولعل مثل هذا، فإن العبرة فيه في كيفية مثل هذا لا في كميته. وكنت أنوه عن هذا كثيرًا عند اختيار القضاة من سنة 1400 إلى سنة 1403 حينما كنت مديرًا للشؤون القضائية بوزارة العدل قبل أن أنتقل إلى عملي العالمي الحالي.
وعودًا على بدء، فإنني أبيّن هنا في هذا المعجم ما يربط اللاحق بالسابق لبيان ألفاظ لا بد أن أبينها على وتيرة، يأخذ بعضها برقاب بعض في هذا المعجم الطويل.
فمن ذلك أولاً: قضي الأمر بضم القاف وفتح الياء. قطع بضم القاف كذلك.
ثانيًا/ قضت عليه، أتت عليه، أكلته دابة الأرض.
ثالثًا/ قضيان الحاجة بتشديد الياء وهي لهجة مغربية، والمراد اقضِ لي الحاجة.
رابعًا/ قضيها لي بتشديد الياء هي لهجة يمانية بمعنى اقضها لي.
خامسًا/ ما نقضاها وهي لهجة على لسان أهل اليمن بمعنى لا أريد قضاءها.
والقضاء ما قضاه الله تبارك وتعالى أيًّا كان. وهذا مع القدر من أركان الإيمان.
سادسًا/ وقضى بتشديد الضاد أخت الصاد بمعنى هدم وأزال، وهذه لغة قليلة.
سابعًا/ واصل القضاء فيما حكاه الإمام منصور بن يونس البهوتي في الروض المربع ج2 ص472.
(إحكام الشيء والفراغ منه)
قلتُ: ولعل البهوتي أراد إحكام الشيء هو ضبطه، ووقع الشيء في موقعه، لا يحيد عنه. وهذه هي تقديري العلمي، هي الموهبة الفذة، وهذا لا يتأتى لمن فقد الموهبة إلا بعد طول نظر شديد ومقايسة صادقة وعقل قوي سليم وطول تأمل.. ولو ظهرت النتيجة بعد حين، ولعله قد يصيب.
ولعل ضابط هذا كله هو الهدوء والثقة في النفس دون تردد، وقوة مراجعة وتقوى وورع.