فيصل أكرم
في معرض تحليله لشخصية الروائي الروسي فيدور دستويفسكي (1821 – 1881) يقول سمير عبده، ضمن كتابه (التحليل النفسي لغراميات المشاهير) الصادر عام 1990 عن دار الكتاب العربي بدمشق: (ودستويفسكي، الذي وقف إلى جانب الإنسان – أيّ إنسان – ضد القمع، نجد في جوهر أعماله – فيما نجد – رفضاً للقمع القيصري وللقمع الثوري.. على حدّ سواء).
تعجبني كتب الدكتور سمير عبده، وهو طبيب نفسي وكل كتبه تحليلات نفسية، ليس لأنها تكشف أشياء في الشخصيات التي يحللها وحسب، بل لأنها – برأيي – تتضمّن من المواقف والمُثل ما يغيب على أكثر الناس بعامة، والأدباء بخاصة، إذ يرى كثيرٌ منهم أن المواقف يجب أن تتبنّى طرفاً ضدّ طرفٍ مقابل، وإن وقفتْ في الحياد فأصحابها ليس أكثر من متخاذلين خائفين مراوغين.. إلخ من الصفات الرديئة الدنيئة؛ بينما يتناسى من يزعم ذلك، أو هو يجهل ربما، أنّ أعظم موقف من الممكن أن يتبناهُ إنسانٌ هو الوقوف إلى جانب الإنسان، ضدّ القمع والظلم من أيّ جهة جاء.
والسؤال الذي يعنّ عليّ ويعذّبني منذ فترة ليست بالقصيرة: كيف نستطيع تحديد الجهة الظالمة، في كل الأحيان؟ نرى المظلومين والمقهورين والجرحى والقتلى في كل مكان، ولكنّ ظالماً واحداً لم يعلن عن نفسه صراحة بأنه هو المتسبب، فكيف ستقف ضدّ مجهول! نعم مجهول، مع ضبابية كل شيء من حولنا، وتشويش الإعلام - منذ بدء التاريخ – فأنت لم تستطع معرفة الجاني الحقيقي في كل الحكايات التي قرأتها وتأثرتَ بها من خلال (أمّهات الكتب) ومنقولات التراث والأساطير والروايات التاريخية، وملاحم القصائد، فكيف ستستطيع أن تعرفه الآن وأنت تقف وسط الأحداث بأخبارها المتضاربة؟ تنظر يميناً فترى مظلومين وجرحى وقتلى، يساراً كذلك، ولا ترى الفاعل إلا إذا كنتَ أنتَ المفعول به، وقتلك!
أقول بصدق: ربما حتى القتيل لم يعرف قاتله، في زماننا هذا، وربما كان يقف بكل ما أوتي من قدرة على الوقوف ضدّ مظلوم مثله ومقتول مثله.. بينما الظالم القاتل هناك.. في علم الغيب.. ومن أجل ذلك، أبدع دستويفسكي رواياتٍ خالدة، أحبتها الأجيال، وأصبحت من المدارس الكبرى في الكتابة والأدب.. والمفارقة الطريفة، أن المرأة الأديبة في العالم كله تأثرت بأدب دستويفسكي، ومن يتفحص الروايات المكتوبة بأقلام نسائية في المئة سنة الأخيرة يلحظ التأثر جيداً بالأسلوب وطريقته في رسم الشخصيات وصفاً؛ على رغم أن دستويفسكي كان في معظم رواياته يقف إلى جانب الرجل ضد ظلم وغدر المرأة(!)، وله في ذلك عبارات مشهورة قاسية ضد المرأة، لعل أكثرها شهرة عبارة (كل امرأة أفعى وكل أفعى امرأة)!
* * *
هل قلتُ شيئاً عن الموقف؟
سأقولُ، ولكنْ.. يُسكتني
خشبٌ لم يأخذ شكلَ حصانْ
يمشي، يترنَّحُ، يتلوّى
يتساقطُ من فوق الجدرانْ
يمتدُّ ضلوعاً في صدري
ويعلّمني معنى الكتمانْ
فرأيتُ الفرصةَ سانحةً
تتثاقلُ في كِفَّةِ ميزانْ
لتخطَّ على كفّيَّ لُقىً
قد أكسبها من دون رهانْ
لكنَّ العِلَّةَ في زمنٍ..
آتٍ هو، لكنْ.. ليسَ الآنْ