د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يخفى على أحدٍ حجم التطور التكنولوجي والتقني الذي وصل إليه العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، مما أسهم في وجود انفتاح معرفي واسع بصورةٍ كبيرة، وقد كان من نتائج هذا التطور أنْ صار بمقدور المرء الوصول إلى أي معلومة بكبسة زرٍّ واحدة، بل أصبح ممكناً للباحث أن يقتني آلاف الكتب والرسائل العلمية والدراسات والبحوث بأسهل الطرق، بل إنَّ باستطاعته العثور على أي عبارة أو كلمة في هذه الكتب في ثوانٍ معدودة.
بعد هذا.. تخيل -عزيزي القارئ- أنَّ هذه الإمكانات التقنية الهائلة كانت متاحةً لعلمائنا القدماء الذين ما زلنا ننهل من مؤلفاتهم العبقرية ونكتشف فيها شيئاً جديداً في كلِّ مرةٍ نرجع إليها، أو تخيَّل أنها كانت متاحةً لأصحاب المؤلفات القيمة من علمائنا الذين عاشوا في المائة سنة الأخيرة، ثم تخيَّل أيضاً كيف كان يعاني هؤلاء في تأليفهم، والصعوبات التي كانت تواجههم في العثور على المصادر، فضلاً عن البحث فيها ومحاولة إيجاد المعلومات المطلوبة، ثم أطلق العنان لخيالك مرة رابعة في كيفية استثمارهم لهذا الانفتاح المعرفي الهائل في تسهيل عملية تأليفهم، والإضافات الواسعة التي كانت ستزيد كتبهم قيمة فوق ما تتميز به من إبداع.
توقف الآن عن التخيل وعد إلى الواقع، وتأمل اليوم فيما تقدِّمه جامعاتنا من دراسات أكاديمية، وما تجيزه من أطروحات ماجستير ودكتوراه، وتمنح على إثره الدرجات الأكاديمية العالية لأصحابها، وانظر في مستوى جودتها، وكيف استثمر مؤلفوها هذه التقنية المتطورة في إنتاج أعمالهم، هذه التقنية التي لم يكن يحلم بها أساتذتنا قبل قرابة خمسة عشر عاماً فقط فضلاً عن سابقيهم، لن تجد للأسف سوى دراسات رديئة، ومعالجات ضعيفة، وأطروحات لا تساوي الورق الذي كتب بها، حتى ليخيل لك أن هذه التقنيات كانت وبالاً على البحث العلمي في جامعاتنا، وسبباً رئيساً من أسباب ضعفه وتهالكه.
إنَّ وجود مثل هذه الإمكانات التقنية والتكنولوجية التي نراها اليوم في مجال البحث العلمي، وتوفُّر المكتبات الإلكترونية الضخمة المتضمنة لملايين المصادر والمراجع التي توفرت بفعل هذا الانفتاح المعرفي، وخدمة محركات البحث التي تقوم بدور لا يصدق في إيجاد كلمة معينة من بطون ملايين الكتب في أجزاء من الثانية.. كل هذه الإمكانات من شأنها أن تنتج لنا دراساتٍ استثنائية، وبحوثاً في غاية البراعة ومنتهى الجودة، وأطروحات علمية لم يسبق لها مثيل، إذا وجدتْ باحثاً جاداً متميزاً، يعي جيداً كيف يستثمرها في دراسته ومعالجاته، ويدرك كيف يقدر هذه النعمة الغالية من خلال التوصل إلى حقائق ونتائج ذات قيمة معرفية أصيلة وعالية، بل إنه من المفترض والمتوقع أن تفوق دراساتنا الأكاديمية المعاصرة في أصالتها وعمقها وجودتها كل المؤلفات السابقة، إذ تهيأ لأصحابها كل هذه الإمكانات التي كانت مستحيلة على مَن قبلنا، ومن ثم ستصبح جامعاتنا في مصاف الجامعات العالمية، متربعة قائمة التصنيفات الدولية، وانعكس ذلك على وطننا، وتطور فكره وحضارته.
إنَّ الجامعات التي تسمح بأن يتخرج منها طلاب ضعفاء، غير مؤسسين تأسيساً علمياً قوياً، وغير مدركين لأهمية البحث العلمي وأثره على تقدم الحضارة وتطور الفكر، ولم يكن همهم إلا تجاوز المقررات والتخرج.. إن أمثال هؤلاء لا يمكن أن نتوقع منهم أن يكونوا باحثين جادين مؤهلين لإعداد دراسات أكاديمية قيمة ومفيدة، حتى لو وفرت لهم أعلى التقنيات تطوراً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
إنه لمن المؤسف حقاً أن تكون العلاقة بين تطور التقنية وتقدم مستوى البحث العلمي عكسية، إذ الواقع يشهد أنه كلما تطورت التقنية ضعفت البحوث، وكلما سهل العثور على المصادر وأتيحت الإفادة منها خرجتْ لنا دراسات ضعيفة هشة محشوة بنقول لا جديد فيها، وكأن طلابنا لا يعرفون من هذه التقنية سوى خاصية (النسخ واللصق) التي نال بفضلها كثير منهم درجات أكاديمية عالية، والله المستعان!