النص لا يعدو أن يكون هذه العبارة القصيرة (أنا الأخيرُ وكلُّ من عشقوا ورائي...) للشاعر على الرباعي، وهنا أقدم قراءة مفتوحة للنص وهي تمثل قراءة واحدة من عدد لا محدود من القراءات الممكنة في فضاء النص.
سر جمال وعبقرية هذه العبارة بالطبع هو في تناقضها المنطقي مع ذاتها.. تناقض أول العبارة مع آخرها. في كونها تقوم بدفعك إلى تفكير عميق وبحث فيما وراء العبارة ، إلى محاولة للفهم والتأويل، البحث عن العاشقين الساكنين في العبارة والذين يستحيل حضورهم لأنهم يجيئون خلف الأخير الذي لا يمكن أن يأتي بعده شيء. بالتالي تحرضك العبارة للبحث عن مدلولات جديدة (للأخير/ وللعشق/والوراء) لكي يتجلى المعنى المحتجب ويسفر عن نفسه.
يمكن أن تقدم لنا هذه المقاربة مثلا قراءة تشير إلى الهزيمة المحتمة في الحب وأن كل المحبين خاسرون لا محالة فكلهم يجيئون آخرا وليس هناك متقدم أو مقدم أو رابح في الحب. ويمكن لنا هنا الحفر بعيدا في المعنى وفي حالة الخيبة والهزيمة المحتمة في الحب فيقودنا هذا إلى أبيات من الشعر تدور في أفق الخيبة هذه والخروج صفر اليدين من تجربة الحب مثل بيت أبي فراس:
فأيقنتُ أنْ لا عزَّ، بعدي ، لعاشقٍ * وَأنُّ يَدِي مِمّا عَلِقْتُ بِهِ صِفْرُ.
وهذا البيت وكون اليد تخرج صفرا من الحب والحياة يمكن أن يقودنا في لعبة التداعي الحر للمعاني إلى أبيات أخرى للطغرائي هذه المرة:
ناءٍ عن الأهلِ صِفر الكف مُنفردٌ * كالسيفِ عُرِّي مَتناه عن الخلل
فلا صديقَ إليه مشتكى حَزني* ولا أنيسَ إليه مُنتهى جذلي
لم أرتضِ العيشَ والأيام مقبلة**فكيف أرضى وقد ولت على عجل
حضور السيف في الأبيات السابقة سيستدعي حتما البيت:
ذهب الذين تحبهم * وبقيت مثل السيف فردا.
ويمكن هنا أن تحضر أبيات أخرى للمتنبي تدور في أفق الحالة:
إنّ القَتيلَ مُضَرَّجاً بدُمُوعِهِ...... مِثْلُ القَتيلِ مُضَرَّجاً بدِمائِهِ
وَالعِشْقُ كالمَعشُوقِ يَعذُبُ قُرْبُهُ.. للمُبْتَلَى وَيَنَالُ مِنْ حَوْبَائِهِ
هذا التداعي في أفق الحالة يمكن أن يظل متحركا إلى مالا نهاية بحيث تسلمنا كل مجموعة من الأبيات إلى بيت أو أبيات أخرى بحيث يظل التناص مفتوحا. يمكن أن يحضر هنا أيضا الفيلسوف العظيم شوبنهاور بشعره الأبيض ونظرته الحزينة للحياة والذي تخلص فلسفته إلى حتمية الهزيمة وعبثية الحياة وعبثية السعي فيها، وربما حضرت بعض قصائد جورج تراكل التي قدم لها الفيلسوف هايدجر قراءة مذهلة في كتاب له يقرأ فيه بعض هذه القصائد وقصائد أخرى لشاعر آخر لم أعد أذكره اسمه الآن.
أشياء أخرى يمكن أن تحضر كالموسيقى أو الغناء فتحضر مثلا أغنية تدور في هذا المدى وهي أغنية لعبدالحليم تتحدث عن الهزيمة والخيبة المحتمة في الحب (فوق الشوك):
https://www.youtube.com/watch?v=sc29WCaJEuo
(فوق الشوك مشاني زماني ..قالي تعالى نروح للحب .. بعد سنين قالي أرجع ثاني.. حتعيش فيه مجروح القلب).
وهذه الأغنية العراقية القديمة والحزينة التي يقول فيها الشاعر (مشكورة) للحبيبة التي رحلت عنه فجأة وتركته وحيدا محطما يشكو خيبة أمله في الحب:
https://www.youtube.com/watch?v=TEKHGOgh0nI
وهذه الأغنية الجميلة ل (لينيل رتشي Hello) {مترجمة} التي يحيي فيها على البعد حبيبته التي غادرته وإن ظلت تسكن أحلامه: https://www.youtube.com/watch?v=RQlTqdh1xr0
وأيضا ستحضر حتما هذه الأغنية الرائعة لكيني روجرز (ليدي) {مترجمة أيضا} والتي يخاطب فيها أيضا حبيبته الراحلة: https://www.youtube.com/watch?v=MYFh16HxIH0
أغنيات أخرى ستحضر وحتما ستحضر بعض اللوحات الفنية كبعض لوحات (فان جوخ) مثلا وربما أفلاما سينمائية تدور في أفق المعنى نفسه. كل ذلك في النهاية يعتمد على المتلقي وطبيعته وثقافته، ولأنني يجب أن أتوقف في لحظة ما فقد اخترت أن أتوقف في هذه اللحظة رغم إغراءات الاستمرار التي لا تبدو لها نهاية واضحة بالنسبة لي.
ما أود أن أقوله أخيرا هو أن المتلقي هو من يصنع المعنى الخاص به للنص منذ اللحظة التي يلتقي فيها بالنص على قارعة الوجود.
النص هو ملك للقارئ، وقد كانت هذه محاولة لعرض هذه الفكرة وتطبيقها.
- محمد الدخيل