(إلى أمي في ذكرى غيابها الأولى 8-10-2015)
لم يسبق لأمي أن صمتت كل هذا الوقت!
ها صوتها يطرق الباب كل ليلة منذ ثلاثمئة وخمسة وستين يومًا وربع اليوم، ثم ينسحب محلقًا في فضاء الغرفة، في بياض حلمي الشاهق، في أنفاسي اللاهثة عدْوًا خلفه، وفي أصابعي الآخذة بالتصلب كلما مر نهارٌ جليلٌ بالضجر والخواء. ها اسمها دوالي تعرّش على حجر الشاهد البارد، كرمة يأوي إليها ظلي الأحدب، عقدة في معطفها الصوفي الطويل بلون القهوة يجللني حين أنام مثل خلد.
هذا تشرين قد عاد من سفر حول الكواكب، استغرقه أحد عشر شهرًا، يفتح حقيبته ليوزع على أفراد العائلة أوجاع العام الفائت، يجمعنا حوله، ويأخذ قياساتنا مثل خياط بارع، ثم نلبس قمصاننا التي وهبها لنا قبل عام ولم تصغر أبدًا حتى بمرور الوقت كما قالوا!
سلامٌ على أمي في عام سكونها الأول..
ها أنا أمضي في مساحة تيه شاسعة بعد رحيل يدها التي طرزت اسمي على ثياب طفولتي، ويدها التي تقطع شرائح الطماطم فيصير لها نكهة التفاح، يدها التي تجسّ بها جبيني لتقيس حرارتي بقلبها، فتعرف أني أحتاج أو لا أحتاج لكمادات باردة بعيدًا عما يقوله ميزان الحرارة الغبي. هذا خفها الأحمر تحفظه أختي على وسادة حمراء بأناقة، وهذا غطاء رأسها أتلفع به كل ليلة قبل النوم لاستحضارها في منام ما، وهذه مسبحتها الطويلة بخرزها الأسود اللامع نعد بها أيامنا بلا أمي.
قاحلٌ هذا العالم دون ضحكتها، ضحلٌ مثل أثر ماء، لن يلبث أن يتبخر تحت شمس غيابها الحارقة، مخلفًا وراءه بلورات ملحية نذرّها على حبات الأرز كما كانت تفعل كلما تحولت كلماتها دمعًا ينسكب على طبقها، ثم نزدرد ملوحة الحبات بمزيدٍ من المرارة!
سلامٌ على شعرها المحنّى وأظافرها القصيرة وأصابع قدمها الصغيرة، سلامٌ على ذراعها الموشوم بزينة قديمة وجبينها الوضيء وكتفها الدافئ، سلامٌ على رئتها المضببة في صورة الأشعة وقلبها المنهك على جهاز العناية الفائقة، سلامٌ على أمي في عام أفولها الأول.
- بثينة الإبراهيم