أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مَرَّ قولُ الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((الْمَخْلوقاتُ آيات عليه سبحانه وتعالى لا تفتقر إلى قياسٍ كُلِّيٍّ: لا قياسٍ تمثيليٍّ، ولا قياسٍ شموليٍّ)).. قلتُ: ردُّ الغائب إلى الشاهد قائم على هذين القياسين معاً، ولكنَّ ذلك في حق الله غيرُ جائز؛ لأنه لا يوجد في الكون مَن له مِثْلُ وحدانيةِ الله سبحانه وتعالى في الكمال المطلق، وليس في الكون ما يَنِدُّ عن قدرته؛ فليس في الشاهد ما تُردُّ إليه كيفيةُ الله سبحانه وتعالى، وليس فيه نِدٌّ يشابه ما شهد به الشرع والعقل بخبرته الحسية من صفات الله على الكمال المطلق؛ إذنْ كيفيَّةُ الله التي هي صفاته لا تفَسَّرُ بكيفيات المخلوقات.. وكذلك في قياس الشمول ليس هناك كُلِّيةٌ يدخل تحتها الخالِقُ والمخلوق سبحانه وتعالى؛ فإذا قيل: (كلُّ قادرٍ يفعل ما يشاء؛ فالإنسان بقدرته يفعل ما يشاء): قيل: هذه كلية غير صحيحة تخرمها المشاهدة؛ لأنَّ الإنسان محدود القدرة، وليس كل ما شاءه يقدر عليه؛ بل وجودُه هو خلْقُ الله وفعله؛ وأمَّا قُدْرَةُ المخلوق فهي قدرةٌ محدودةٌ؛ وهي منحة من الله، خاضعة لمشيئة الله.. وأما ربنا سبحانه وتعالى فله القدرة المطلقة، ولا رادَّ لمشيئته.. هذا ثابت بكل البراهين العلمية الدالة على وجوده سبحانه وتعالى بصفات الكمال المطلق في قدرته، وبالبرهان على أنه الخالق وحده؛ ومن سواه يصنع من مادةٍ وعناصرَ خلقها الله لم يوجدها المخلوق، وبمهارة وعلمٍ خَلَقَه الله له، وكلُّ صنعةٍ للمخلوقِ مقيَّدة بمشيئة الرب سبحانه وتعالى.. وقد أكَّد ابنُ تيمية: أنَّ تحصيل البرهان ليس مفتقراً إلى القياس؛ فوجود الله بصفات الوحدانية والكمال لا يفتقر إلى قياس شمولي [مِثْلِ كلِّ مُحْدَث فله مُحْدِث]؛ بل المحدثاتُ أنفسُها بُرْهانُها على الله منها هي؛ فما نراه من كونٍ عظيم يستلزم قدرةَ مَن أحدثه، ولا يوجد في المشاهدة من تُنسب إليه هذه القدرة إلا بعلمِ العقلِ أنه لا تصدر القدرةُ المشاهدُ أثرُها إلا عن قادر واحد لا يشاركه أحد في قدرته؛ فهذا معنى قوله رحمه الله: «فالفعل يستلزم القدرة، والإحكامُ يستلزم العلم، والتخصيص [؛أي تعيينُ الموجود بِهُوِيَّتهِ] يستلزم الإرادةَ، وحسنُ العاقبةِ يستلزم الحكمة» [درء التعارض 3/124- 125]، وانظر كل المجلد الرابع وما بعده في إيراده كلامَ الآمديِّ ورده عليه؛ فكله يقرر هذه الحقيقةَ، ويقرِّرُ حقيقةَ أنَّ أوَّلِيَّتَهِ سبانه وتعالى مُنتِجَةٌ أنَّه لا شيئَ قَبْلَه.
قال أبو عبدالرحمن: افتقارُ القياس الكلي إلى البرهان يجعل القياسَ ليس برهاناً في نفسِه؛ ولهذا قال ابنُ تيمية في درء التعارض 6/95: «وإذا أردنا أن نُدخل شيئاً من المعيَّنات تحت القضايا الكلية: فلا بدَّ من تصوُّرٍ للمعيَّنات غير [المناسب للسياق: قبل] التصوُّر للقضايا الكلية»، وانظر 6/125-124- 127عن القياس الكلي، وأنه يفيد اليقين تارة، والظن تارة.
قال أبو عبدالرحمن: إذن هو ليس برهاناً في نفسِه، وانظر 6/278-280 وص 152-155.. ومع أنَّ ابن تيميةَ يثبت القياس الشرعي: فإنَّ سياقه إذا تأملته في 7/336 - 344: فإنك سترى دلالته على أنَّ القياس ليس برهاناً في نفسه؛ بل هو لكشفِ البرهان القائم قبل القياس؛ وإلى لقاء إن شاء الله تعالى في السبت القادم في موضوعٍ يتعلَّقُ بهمومِ أُمَّتِنا اليوم، والله المُستعانُ.