سلمان بن محمد العُمري
داء التحزّب والتّصنيف استشرى في الأوساط الدّعويّة وشمل المؤسسات التعليمية والإسلامية على حد سواء، وأصبحت قذائف الاتهامات ظاهرة للعيان ليس على المستوى الشخصي والمهني. وفي أروقة العمل بل انتقلت إلى وسائل التواصل الاجتماعي في المجاميع الخاصة أو عبر تويتر. كما شهدت أروقة المحاكم ووزارة الثقافة والإعلام شكاوى رفعها مغردون ضد بعضهم بعضا أو شخصيات اعتبارية ضد بعض المغردين.
والملحظ أن التصنيفات والاتهامات والتراشق أصبح داخل الخندق الواحد. ففي السابق كان تقسيم الناس إلى ثلاث فئات: فئة من أهل الصحوة والدعوة، وفئة تخالفهم في بعض الرؤى والأطروحات، وفئة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والفريق الأول قد يصف فئة من المخالفين لهم بأنهم (علمانية) وغير ذلك من الأوصاف، والفريق الآخر يرى أنهم من الرجعيين والمتشدّدين دين الغلاة.
ومنذ مدّة ظهرت تصنيفات وتحزّبات جديدة متنوعة لم تقف عند حد الاتهامات الشخصية بل صارت هناك دروس ومحاضرات ومقاطع فيديو تسجّل وتبث عبر الوسائط وقصائد تلقى في ذم كل فريق وكتب تؤلّف ودعاوى في المحاكم. بل إن القضاة أنفسهم لم يسلموا من هذه التهم، ومن سلم منها عايش واقعها بالدعاوى التي تقدم بها كل فريق، وليس هذا الأمر قاصراً على المدن الكبيرة بل وصل حتى القرى والهجر والبلدان الصغيرة بل حتى في العائلة الواحدة. وقد كتب أحد القضاة قبل عدّة سنوات لأحد الوزراء المختصين كتاباً يشخّص الواقع ويطالب الوزير بأن تقوم الوزارة بمعالجة هذه الظاهرة، وقد كان خطابه قبل أن تستشري هذه المشكلة في تويتر وقبل انتشاره، أما وقد أصبح التويتر شاغل الناس في هذا الزمان فقد عجّت ساحاته وميادينه بسجالات الطرفين ما بين أسماء صريحة وأسماء وهمية، وهي بلا شك نذير سوء ومؤشر خطير لانقسام المجتمع وفقدان الثقة فيه. لأن التطاول وإلقاء التهم لم يسلم منه حتى كبار العلماء والدعاة فقد اتهموا بما ليس فيهم، وإذا ما استمر هذا الأمر فسيكون وبالاً على المجتمع.
والمجتمعات الغربية عانت من هذا الداء في عقود سابقة ولعلّنا نذكر ما يسمى بـ(المكارثية) وهو السلوك الذي يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة، وينسب هذا الاتجاه إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الأسبق جوزيف مكارثي وكان رئيساً لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس، واتهم عدداً من موظفي الحكومة وخاصة وزارة الخارجية بأنهم شيوعيون ويعملون لمصلحة الاتحاد السوفيتي. وقد تبيّن فيما بعد أن معظم اتهاماته لم تكن صحيحة وكانت على غير أساس، وقد استبعد من منصبه عام 1954م ويستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين.
لقد انتهت المكارثية الأمريكية في حينها ويبدو أن زرعت لمواجهة الاتحاد السوفيتي لتكون سياجا، ولكن ما لدينا الآن هو أشبه بالمكارثية من كل فريق فهناك اتهامات من الطرفين لا تبنى على أساس صحيح بل على ظنون وشكوك وأوهام وتحزّب أعمى مقيت لا يصح من سائر البشر فكيف بمن ينتمون إلى دين الإسلام ثم إلى هذه البلاد المباركة التي لم يوحّد الملك عبدالعزيز فيها البلدان بل وحّد القلوب والأفئدة بعد أن كانت شتاتاً.
إن الوقت الحالي هو أحوج ما نكون فيه إلى أن نكون صفاً واحداً وقبل ذلك ما يأمرنا فيه ديننا: (وكونوا عباد الله إخواناً)، و(المسلم أخو المسلم)، و(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
ونحن بحاجة في هذا الوقت مع لحمة الدين إلى لحمة الوطنية والوقوف صفاً واحداً ضد من يريدون المساس بديننا وبلادنا وولاة أمرنا ووحدتنا وأمننا من أعداء الملة والدين والوطن وهم من خرجوا بهذه الانقسامات وهذه الاتهامات وإن لم يكونوا أسسوها فقد أججوها وجعلوها تستفحل وطار بها الرعاع من كل فريق وشرّقوا وغرّبوا على حساب ديننا ووطننا وأعراض الناس وأماناتهم. وإن لم نتدارك ذلك فإن الانقسامات الفكرية في المجتمع هي أخطر من الانقسامات الفئوية والجهوية.
نسأل الله أن يحمي بلادنا وولاة أمورنا من شرّ الأشرار وكيد الفجار وطوارق الليل والنهار. وأن يصلح الأحوال، ويهلك كل ظالم جبّار متكبّر.