د. مها أحمد القرزعي
في ظل التوجهات الجديدة التي نراها سواء عالمياً أو إقليمياً أو محلياً كان لا بد من تغييرات جذرية في داخلنا هذه التغييرات ستكون في التعليم والاقتصاد والسلوكيات، حيث إنّ برنامج التحول يحمل العديد من الحزم الإصلاحية الاقتصادية والتنموية التي ستعود نتائجها على المواطن، وأن جوهر خطة التحول هو الإنسان السعودي ودوره في المساهمة في صياغة مستقبله ومستقبل الوطن بأسره، وإعداد الإنسان منتجاً ومستهلكاً في صناعة المستقبل لأن العنصر البشري يمثّل صلب العملية التنموية، وتلعب برامج الدراسات العليا في الجامعات دوراً مهماً ريادياً في التنمية الشاملة المستدامة كونها حاضنة للقادة والمفكرين والباحثين وعلماء اليوم والغد الذين يسهمون إسهاماً فعَّالاً في إنتاج التراث العلمي والثقافي ونقل المعرفة الإنسانية ورافداً رئيساً للبحث العلمي.
أن سمة وقوة الجامعات تُقاس بقدر ما تناله نظم الدراسات العليا وبرامجها من تخطيط ورعاية، ومن هنا أعطت الدول المتقدّمة برامج الدراسات العليا ونظم البحث العلمي عناية فائقة وجعلتها من ضمن أولوياتها واهتماماتها؛ حتى استطاعت أن تحصد عديداً من مخرجاتها الإيجابية، وتوظيفها في كثير من احتياجات المجتمع كعامل وقائي وعلاجي لما يواجهه المجتمع من مشكلات متنوّعة اقتصادية واجتماعية وغيرها.
لذا على الجامعات السعودية أن تولي اهتماماً خاصاً لبرامج الدراسات العليا والبحث العلمي لكي تستجيب وتتناغم مع المحاور الرئيسية لرؤية 2030 وهي المجتمع الحيوي والاقتصاد المزدهر والوطن الطموح، وهذه المحاور تتكامل وتتسق مع بعضها في سبيل تحقيق أهدافها والاستفادة من مرتكزات هذه الرؤية .
ولتحقيق التناغم التام بين برامج الدراسات العليا ورؤية 2030 لا بد من الوقوف على أهم الالتزامات التي وردت ذكرها في وثيقة هذه الرؤية، والتي تعد من أهم أدوار التعليم الجامعي بشكل عام وبرامج الدراسات العليا تحديداً، وهي كالتالي: توفير فرص التعلم للجميع عبر بناء منظومة تعليمية مرتبطة باحتياجات سوق العمل، الاستثمار في التعليم والتدريب وتزويد أبنائنا بالمعارف والمهارات والسلوكيات الحميدة اللازمة لوظائف المستقبل ليكونوا ذا شخصية مستقلة تتصف بروح المبادرة والمثابرة والإبداع والقيادة ولديها القدر الكافي من الوعي الذاتي والاجتماعي والتفاني وتأسيس قاعدة من المواهب والكفاءات البشرية المتميزة ليكونوا قادة المستقبل، ومواءمة مخرجات المنظومة التعليمية مع احتياجات سوق العمل، وتوجيه الدارسين نحو الخيارات الوظيفية والمهنية الأساسية وإتاحة الفرصة لإعادة تأهيلهم والمرونة في التنقل بين مختلف المسارات التعليمية، تمكين طلابنا من إحراز نتائج متقدمة دولياً والحصول على تصنيف متقدّم في المؤشرات العالمية للتحصيل التعليمي والبحث العلمي، وصنع بيئة محفزة تتساوى فيها الفرص ويكافأ فيها المتميزون واعتبار الجدارة مبدأ أساسياً في زيادة الإنتاجية، وضع سياسات لتحديد قادة المستقبل وتمكينهم وتحقيق الكفاءة في استخدام الموارد والحد من الهدر، وتعزيز ثقافة كفاءة الإنفاق بما يزيد الأثر المتحقق مقابل الصرف، وأخيراً نهدف إلى أن تصبح خمس جامعات سعودية على الأقل من أفضل (200) جامعة دولية.
وهذا يجعل الجامعات السعودية أمام تحديات كبيرة في إعادة بناء وإدارة برامج الدراسات العليا من حيث عملياتها الفعلية (التدريس والتعليم) وعملياتها المساندة (الإدارة والخدمات) لتستطيع مواكبة عصر العولمة وعصر العقول العاملة وعصر القدرات المعرفية العليا ومهارات الإبداع، وهذا يعني إحداث تحولات جذرية في سياسة إدارة برامج الدراسات العليا والبحث العلمي ومن أبرز هذه التحولات:
- إعادة هندسة العمليات الإدارية لأهداف الدراسات العليا وهياكلها التنظيمية وسياسات القبول فيها ولمراكز البحث العلمي ومشاريعه، ولمنهجية البحث العلمي، وتحكيم البحوث والمنح البحثية.
- تحسين مستوى برامج المرحلة الجامعية لتتفاعل مع برامج الدراسات العليا.
- استحداث قاعدة بيانات خاصة بالدراسات العليا لتسهيل تبادل المعلومات والبحوث داخل المملكة وخارجها.
- توفير مراكز خاصة تحت إشراف الجامعة لتقديم الاستشارات الخاصة في إدارة برامج الدراسات العليا وفي مجال الأبحاث العلمية والترجمة والتحليلات الإحصائية والنشر البحثي وتحديد المهارات البحثية والمعرفية والمهنية المتوقّعة من دراسة كل برنامج، واستقطاب المبادرات النوعية وتجعل الجميع يبدأ من حيث انتهى الآخرون.
- تفاعل معطيات برامج الدراسات العليا والبحث مع التجدد المعرفي والمشاركة في العطاء المعرفي العالمي المتقدم.
- توفير بيئة تعليمية تلتزم بالبحث والتميز العلمي للتحول نحو الاقتصاد القائم على المعرفة.
- تطبيق معايير في اختيار الموضوعات البحوث المستقبلية لضمان الحداثة والأصالة والمواءمة والتفكير التحليلي والتعلم الذاتي واكتساب المهارات.
- إيجاد بيئة خصبة تدعم الحرية الأكاديمية للباحثين وتقدم لهم الدعم المعنوي والمادي المتواصل الذي يعزّز الإبداع والابتكار البحثي بما يستجيب لمتطلبات التنمية.
- إجراء أبحاث عالية الجودة وفقاً للمعايير العالمية في المجالات البحثية التي تلبي حاجات قضايا المجتمع السعودي.
- تشكيل خريطة بحثية في كل تخصص على حدة لتوجيه الباحثين في عملهم الحالي والمستقبلي.
- وجود تجمعات جامعية بحثية على جميع المستويات والتخصصات، بما يسمى رابطة الجامعات البحثية.
- زيادة الشراكة والتعاون مع القطاع الخاص فيما يتعلّق ببرامج الدراسات العليا والبحث العلمي.
- تبادل الخبرات مع الدول المتقدّمة في مجال الدراسات العليا والبحث العلمي.
- الاهتمام بتقويم برامج الدراسات العليا بشكل مستمر من حيث الترابط والتدرج والتتابع من خلال التنسيق الأفقي والرأسي في تصميم المقررات لتواكب حاجات سوق العمل والاتجاهات العالمية.
وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذل في مجال تطوير برامج الدراسات العليا، فما زالت هذه البرامج دون المستوى المطلوب وتعاني قصوراً في بعض مداخلاتها وانخفاض مستوى مخرجاتها، ولمعرفة مدى تحقيق برامج الدراسات العليا في الجامعات السعودية للأهداف التي وضعت من أجلها وبالتالي مدى نجاح السياسات المنظمة لها لتكون حيوية ومتجددة مع التطورات المتسارعة في ميدان التعليم والتربية، لا بد من إخضاعها للتقويم والتطوير بشكل مستمر للتعرّف على مدى ملاءمة مخرجات هذه البرامج للاحتياجات النوعية والكمية التي تتطلبها رؤية السعودية 2030 والتأكد من ارتباط تلك البرامج باحتياجات الخطط التنموية في المجتمع السعودي.