د. خيرية السقاف
كثرت وتشعبت الأحداث, والموضوعات, والأغراض, والتوجهات, والأفكار, وبات كلٌ يدلي فيها بما عنده, وإن لم يكن مختصا في مجالها, أو ملما بتفاصيلها,.. في الوقت الذي تقوم فيه هذه الأحداث على وقائع, وتفاصيل بل تراكمات زمنية تتطلب هذا الاختصاص المعرفي الأكاديمي, أو المعرفي الثقافي الناتج عن الاطلاع, أو التوجه الفكري, أما القارئ العادي فهو الضائع في خضم الموج العارم الذي يأتيه في أية لحظة تطرح فيها وسائل النشر بأنواعه مطبوعاتها, أو «نسخها» -كما جرت عليه مصطلحات الراهن-, أو مواقعها التي شغل الناس بها, واندفعوا للتعبير فيها بوسائلها عن آرائهم الخاصة, أو آراء غيرهم في مجاراة غير منصفة لهم, أو كيفما تملي لهم خبراتهم, أو رؤيتهم , أو رغبتهم في المشاركة فهم حضور على أية حال لا يتخلفون عن الركب..
ولنا في موضوع قانون أمريكا «جاستا» خير مثال, إذ ذهب فيه كل يهرف بما يعرف, وبما لا يعرف, والتائه في الزحام عامة الناس, تجدهم عنه فيما يقولون إما فاهما بوعي, أو مع الخيل راكضا في السبق..!
ثم في جانب آخر, هناك (محركات الاتباع) كما أراه مصطلحا مناسبا لكل من يجري مع الموجة, أو «الجوقة», رافعا أو خافضا, مادحا أو ذاما, راثيا ومؤبنا, ممثلا لرأيه وموقفه, أو يحذو من يتبع, هؤلاء -وهم الشرائح الغالبة المنتشرة - ما إن يبث خبر, أو يموت شخص, أو يتولى منصبا آخر, أو حتى يُنقد فردٌ ما لأمر ما, فإنهم يتوافدون على رفعه ثناء, أو خفضه ذما, أو رثائه بما لا يعرفون عنه, حتى غدت ساحات التواصل والنشر تعج بأصوات شديدة الغلبة كما صراع الديكة, لا يستفيد منه أحد قدر ما يتلوث صدره من غبار معمعة الديوك..
المضحك المؤسف أن هذا كله يدخل في نمط السلوك الجمعي لا أدري أكان مخبأ مستورا قبل أن تكشف عنه الوسائل السريعة المتاحة للكل, أو هو سلوك طرأ مع هذه المتاحات, وأعان عليه ما واكبه من حرية الضغط على مفتاح صغير تحت الاصبع, ليكون وبالا كبيرا في فضاء الاتصال فالتعبير والانتشار, فالنقل والوصول,؟!
هناك فقاعات طيَّرُوها للأعلى ولم يكن مكانها فوق الأرض أبعد من حدود قدميها,
وهناك رموز طمسوها ليس لما غير أنها لا تتحمس لصوت الطبول, ولا تجاري مَباكي المآتم..!
وهناك قضاياها مزقوها قبل أن يستوي نسيجها في كماله,
وهناك أسوار نقضوها دون أن تستوي الغاية في تمامها..
وهناك حدود اقتحموها ليس لهم فيها جمل ولا ناقة..
وهناك أحداث لا يدرك خباياها وتفاصيلها غير الخبراء المختصين سواء اقتصادية, أو سياسية, أو حتى تأريخية, وعلمية, أو ذات مجال بعينه ليست للعامة لأن يستعرضوا فيها هش ما في خزائنهم, وأوهن ما في خبراتهم وفكرهم.
مع ذلك فكل يقول, ويقول, ويقول, لكن ماذا يقول؟ ولماذا يقول, وما وراء ما يقول,
أصدقا ما يقول, أيعرف ما يقول, أيعي ما يقول, أينفع بما يقول؟!
هل يقول عن علم, ومعرفة, واتساع خبرة, وفيما يختص, أو يفهم, أو يعرف,
أو هو انفلات فادح التفريط, مؤسف الظاهرة من قبل شرائح كثيرة لا تعد, ولا تحصى..؟!
ومع أن هناك من يدلي بما يعرف, ويقول وفق خبراته اختصاصا واهتماما, ويصدق في معرفته بما يقول, ولا يشارك خارج أطر خبراته, وإن كان رأيه وليد الأحداث لكنه لا يغرق فيما لا يعنيه, إلا أن الغلبة لمن ضيعوا الحقيقة في دقة المعلومة, وما تمليه من صدق الرأي, وتؤسس له من الثقة فيما يأتي عن ثقة, عن هذه الأغلبية يطرح السؤال, كيف يمكن تقدير المصداقية في الذي تعج به حركة هؤلاء من الناس فيما يزلقونه بين العيون في لمحة الثانية.؟..
أيعلمون أنهم يقدمون المواد الخصبة لمن همه دراسة عقول, ونفوس, ورأي, ومواقف وجوانب الضعف في أفراد المجتمع فيوفرونه له عن طريق اندفاعهم المتزايد بسذاجة, وعدم مبالاة, فقط لأنهم يصعدون بلا وعي على سلم النشر السريع..
فليتهم لا يتمادون فيما لا يدرون, و لا يتعرضون لأمر لا يعرفون, ولا يتبنون رأيا وهم يجهلون, ولا يركضون وراء من يقول وإن أقنعهم إن لم يكونوا موقنين , وليقسطوا في الرضا, وفي الغضب, وليترفعوا عن الفوضى, ويربأوا بأنفسهم عن مزالقها.
إنه وقت التعقل والحكمة, والتروي والتفكر, والعمل الجاد للبناء الذاتي, والتكافلي..
إنه ممر ضيق ينبغي فيه أن يعنى كلٌ بنفسه أولاً لتصح العناية بالمجتمع من ثم.