د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليس أقسى من قراءة سيرةٍ مشحونةٍ بالوجعِ؛ فلا العمرُ اكتمل، ولا الحياةُ ابتسمت، ولا الأحياءُ وفَوا، ولا الغربةُ شفعت بموتٍ هادئٍ.
** سامر صاحبكم (السيَّاب في أيامه الأخيرة) فأيقظ منافيَ الحزن، وأنبت مدافن الشجن، وارتدت مساءاتُ الريح ثوبًا ضاق بالهمِّ والوهن، وأقفلته بوابات التحاسد والتجاهل والأمراض والضياع وجفاء امرأةٍ أحبها وصمت أخرى أحبته ونعش لا يتبعه أحد.
** تكثيفٌ مأساويٌ حشده كتاب (عبداللطيف أطيمش)؛ فاستعاد محطات جيكور وبويب ولميعة ولبيبة وإقبال والسبتي ومنفذ صفوان ومقبرة الحسن البصري وتمثالٍ يرسم قسوة الذاكرة التي تصحو في الوقت البليد.
** وعينا بؤس السياب لوجود مريدين أعارونا ذواكرَهم فاستعرنا شقاءَ الإنسان داخله، ولم يعنِنا أن يكون مبدعًا ذا ريادة شعريةٍ، ولم نستغرق في تفاصيل تحولاته السياسية والفكرية؛ فالقضية هنا الإنسانُ الذي ضاق به وطنه حدًا جعل سلطات الحدود العراقية من جهة الكويت - حيث مات (1964م)- تؤخر استقبال جثمانه، والسلطات تطرد أسرته من المنزل الذي مُنح له من عمله في دائرة الموانئ، ولكنها نصبت له تمثالًا على شط العرب بعد سبعة أعوام من رحيله؛ فهل ثَمَّ وفاءٌ أجمل؟!
** تبقى القضية خارج مدار الوجع الفردي إلى الأوجاع الجمعية ممن لا بواكي تستعيدُ وسومهم أو فنًا يصنع تماثيل لهم أو مؤلفين يخلدون معاناتهم؛ فلماذا تَنسى مدونات التأريخ وتتيه ذواكر الشعوب عن مليون سيابٍ ومليار تسيب، ولماذا يغيب المهمشون عن الواجهة أحياءً وأمواتًا؟
** التاريخ يصنعه الصغار فيدَّعيه الكبارالذين يحتوونه كما شاؤوا ويحرقونه متى شاؤوا فيصطلي به الصغار وتتطاير أشلاؤه في الهواء أو لنقل: في الهباء؛ فمن ينصف الصغار؟ ومن يحاكم الكبار؟ ومن سينتصف للكادحين؛ من حفروا البئر وبنوا المسجد وعلموا الطفل وزرعوا الشجرة وسقوا الوردة وأشعلوا السراج فأطفأوا الظلمة؟
** عادى السيابَ معاصروه وظلموه، وأدركنا صنيع الأدلجة ومكايد المسيَّسين؛ فأشجانا حلمه الموؤود وجسمه المكدود وعلله وعزلته؛ غير أننا لم نسأل حمائم بردى ونوارس دجلة وبوابة اليمن وأرزة صنِّين عمن سقاها اليأس والبؤس فناحت وتداعت بعدما صارت الأرض لشهدائنا والسماءُ لسفاحيهم.
** تألمنا مع شاعر جيكور، ونبكي مع مشاعر ألف جيكور، ونفتش في أوراق المهمشين فلا نلقى لهم صوتًا، وتُباد «حلب» وتُحتل «بغداد» وتؤسر «صنعاء»وترتهن «بيروت» ونبكي بدموعٍ صامتةٍ فالراية لمن يبكون على «بيريز».
** في الزمن الصعب تجيءُ الأسئلةُ أصعب وتتوارى الإجاباتُ؛ فلا أحد يعبأُ بمن يشكو، ولا قيمة للأيامى واليتامى ومن دُفنوا في تحت أنقاض منازلهم ونقائض زعاماتهم، ولا بأس أن يمتدَّ العبثُ، وهل بعد سفاحٍ وعميلٍ وطائفيٍ موقعٌ لمن يحكي؟!
** كانت وصية السياب أن يدفن في «قبر من مقابر بلاده الكئيبة»، وقد باتت وصيته أمنيةً للمهمشين من بني أبيه وعمِّه؛ فشطُّ العرب لكسرى وعاصمة الأمويين لقيصر، والقبور لعملائهم من ساكني القصور.
** الصورةُ كتاب.