مواجهة الفكر المتطرّف وأيديولوجيّات الجماعات الإرهابيّة دخلت حيّز المنهجيّة العلميّة، والتفكيك العقلاني المتأسس على نظريّات اجتماعيّة ونفسيّة كناتج حتمي فرضته الظروف الراهنة التي تشهد تزايد حالات استدراج شريحة الشباب من كافّة أرجاء العالم، حتى استحال الإرهاب إلى ظاهرة كونيّة هدّامة تهدد جميع المجتمعات الإنسانية دون استثناء.
أولى إشكالات الفكر المتطرّف هي رغبته الاستقطابيّة وسعيه لعسكرة أكبر قدر ممكن من القوى البشريّة تحت لواء الولاء للجماعة والبراء مما سواها، وللدلالة على صدق الولاء يبذل كل فرد فيها أقصى جهده لضم أشخاص جدد؛ لتكتسب جماعته نفوذاً أكبر وقدرة على السيطرة تمنحه شعوراً بالرضا الداخلي والأمان.
الرضا والأمان سمتان عاطفيتان من الدرجة الأولى، وهما العصب الرئيس الذي تبني عليه المنظمات الإرهابيّة سلوكها في مرحلة الاستقطاب، لذلك تنتقي بدقّة الأفراد الذين يعيشون حالة سخط اجتماعي، أو خوف وتذبذب نفسي، والحالتان السالفتان تفرضان نوعاً من الغشاوة العقليّة يسهل معها زرع أفكار جديدة متطرّفة ينقاد إليها الفرد بوصفها وصفة الخلاص من معاناته العاطفيّة.
معظم من تستهدفهم الجماعات المتطرّفة يفتقدون الشعور بالهويّة والانتماء، والبيئات الاجتماعيّة المفككة تُعد أرضاً خصبة لجنوح أبنائها نحو التطرّف، فالمنظمات الإرهابيّة تُدرك رغبة الفرد في أن يصبح ذي قيمة داخل منظومة جماعيّة تلبي رغباته الوجدانيّة، وتبدأ باللعب على هذا الوتر لكسب الأتباع عبر إيهامهم بصناعة حياة بطوليّة تحقق له الانتماء والهويّة بوساطة وحدة الفكر والأيديولوجيا التي لم تكن واضحة المعالم في حياتهم السابقة.
صناعة هويّة الجماعة ليست عشوائيّة إنما تنطلق مما يُعرف بنظرية تصنيف الذات، أي أن الإنسان لا يمكنه أن يحيا دون أن ينظر لنفسه بوصفه فرداً داخل جماعة ليتمكن من بناء هويته الذاتيّة ويؤسس من خلالها عواطفه ومبادئه ومعتقداته، ومن سلبيّات ذلك التصنيف أن الفرد يظل عاجزاً عن إعمال عقله في مرحلة خضوعه للهوية المصطنعة، وينساق بسهولة أكبر خلف الشعارات الزائفة التي تخاطب غرائزه ومخاوفه.
ومن حيل الجماعات الإرهابيّة أنها لا تأمر أتباعها الجدد بتنفيذ أعمال متطرّفة، بل تخضعهم لمرحلة الاندماج الفكري أولاً حتى يبدؤوا تدريجياً بتقبّل تلك الأفكار بوصفها أفكاراً طبيعيّة يمارسها كافّة من ينتمي للجماعة، ويُطلق على هذا المبدأ «نظرية المقارنة الاجتماعية»، والتي تحوّل فيها الفرد من تابع فكري إلى تابع سلوكي ليحظى بالقبول لدى سائر أفراد المجموعة، ويكسب ثقتهم.
ويتعاضد مع اكتساب السلوك المتطرّف الناتج عن الانخراط في الجماعة، نمط آخر يتأسس على الحوارات الفكريّة الساعية إلى هدم المسلمات القديمة لبناء معتقدات أخرى مناقضة لها تشرّع القتل والعنف والإرهاب، وهذه الحوارات تُبنى على شقّين، الأول يتمثّل في الطعن بالرموز الدينيّة الوطنيّة ليسهل نسف أقوالهم في مسائل سفك الدماء والتطرّف، والثاني يظهر في تقديم حجج جديدة للإقناع لم يسبق للتابع الجديد أن سمع بها لكيلا يبدي عقله أي مقاومة حيالها.
دحر المنظمات الإرهابيّة لا يمكن أن يتحقق بالمواجهة العسكريّة فحسب بعد أن انتقلت المعركة من الأرض إلى العقول، الحرب الجديدة ضد التطرّف تحتم اتجاهنا نحو آليّات جديدة ذات أبعاد فكرية في المقام الأوّل، تتمثل في تعزيز الهويّة الوطنيّة والانتماء للوطن، والعمل على جعل المجتمعات أكثر احتواء لشريحة الشباب ليتمكنوا من نيل رغبتهم العاطفيّة وفي مقدمتها الرضا الاجتماعي والأمان النفسي، إضافة إلى تهيئة الظروف لمناخ حواري يستوعب همومهم ويصحح مفاهيمهم ويجيب عن كافّة تساؤلاتهم الدينية والدنيوية.
- ماجستير في النقد والنظرية