عبدالعزيز القاضي
لك شوفة وحدة وللناس شوفات
وما واديٍ سيله يفيّض بوادي
- ابن سبيّل
وهذا بيت من قصيدة جميلة, وكل شعر ابن سبيّل -بلا مبالغة- جميل عذب مؤثر ممتع, فهو من شعراء الطبقة الأولى, وهو زعيم ورائد الشعر النبطي الرومنسي. وقبل البيت:
لا تاخذ الدنيا خْراصٍ وهقوات
يقطعك عن نقل الصميل البرادي
والبيتان سارا مسير الأمثال, بل أصبحا مثلا يُستدعى ويُتمثّل به عن حلول المناسبة. وأظن أن معناهما ومغزاهما واضح ولكن لا بأس في نقل شرح المرحوم خالد الفرج لهما, يقول: «الخْراص: التخرّص, رجم الغيب. الهقوات: الظنون. الصميل: ما يُنقل به الماء من قِربٍ وغيرها. يقول خذ نفسك بالحزم ولا تعتمد على الظنون فيقعدك برد الطقس عن التزود بالماء في سفرك. وهم لسكناهم في الفيافي يضربون بذلك المثل فيقولون (نقل الماء إلى الماء حزابه) يعني أن نقل الماء من المورد إلى المورد حزم.
والشوفة: الرأي والتفكير, يريد أن تكون مفكرا فالناس لهم أفكار, وكل واد يختص بسيله وفوق كل ذي علم عليم (ديوان النبط 1/178). وأظن أن المثل الذي أورده الفرج صوابه كالتالي: (نقل الما على الما حزابه).
والبيتان كما ذكرت, وكما يتضح من شرح مؤلف ديوان النبط, واضحا المعنى والمغزى, ولكن بيت السياحة أعلاه يوقف المهتم بالألفاظ والتعبيرات والصور, خصوصا شطره الثاني, فمعناه وعلاقته بالشطر الأول يحتاج قليلا من التأمل.
يقول: لك رأي ولغيرك آراء, وكل واد له مصب (ومفيض). فهل صحيح أن سيل الوادي لا يصب (يفيّض) في واد آخر؟ وما علاقة هذا المعتى بالشطر الأول؟
المعروف أن معظم الأودية لها أصل وفروع, وهذه الفروع تلتقي عند الأصل كما تلتقي أغصان الشجرة بأصلها, فإذا التقت اختلط سيلها بسيل البقية. فهل هذا ما نفاه ابن سبيل؟ لا أظن, بل أظن أنه أراد أصل الوادي لا شعبه وفروعه, فوادي حنيفة مثلا لا يفرغ سيله في وادي الرمة, وهكذا. وكما أن لكل واد سيله فإن لكل شخص رأيه. وهذه الصورة يسميها أهل البيان (التشبيه الضمني), وهذا النوع من التشبيه أكثر رقيا في التعبير, وأكثر تأثيرا وإقناعا وتوضيحا للمقصود.
والبيت -قبل أن يكون مثلا- ما هو إلا كلمة حكيمة, ونصيحة رجل مجرب خبير, وإعجازه يكمن في صدوره في زمان ومكان وظروف وبيئة ربما كانت لا تعرف التعدد الفكري ولا تؤمن به لأنه ينافي نظام الحياة السائدة.
لا تفرض رأيك على الآخرين, ولا تلزمهم بمقاييسك الخاصة, ولا تظن أنك الوحيد المدرك للحقيقة المحيط بالواقع.. هذا ما قاله ابن سبيل, وقد أسس له بالبيت السابق له, ليؤكد أن النظرة الخاصة قد تكون مبنية على قصر نظر أو خداع بصر أو تغير ظرف مكتوب لكنه غيبي. والبيت يقدم نصيحة غير موجهة تلخص أس الصراعات الفكرية أمس واليوم وغدا, ولو آمن الكل بمعناه وعملوا بمحتواه لربما انحسرت الصراعات, وذابت الخلافات.