د. جاسر الحربش
هل شاهدتم ذلك الرجل الذي انتشل رضيعة من الركام في حلب؟. حمل تلك الكتلة الصغيرة من الحياة بين ذراعيه، رآها تتنفس وتحرك أطرافها الصغيرة فبكى بكاء شديدا ً. الرجل بكى فرحا ً بحياة الرضيعة وحزنا ً على براءة الطفولة المطمورة تحت الأنقاض. كان بكاء فرح بحياتها مختلطا ً بجزع ورحمة لتلك البراءة التي تتحسس ذراعيه كأنها ترجوه أن يتوقف عن النشيج. تلك الطفلة المكسوة بالغبار الذي يلف المكان كانت بذرة حياة جديدة، وذلك الرجل برهن ببكائه وسط الأموات على امتلاكه بقية حياة، أما المتسمرون أمام نشرات الأخبار فأموات، أو تحسبهم أيقاضا ً وهم رقود.
ماهي الحياة الحقيقية المتعدية للكينونة البيولوجية؟. هل هي أن يتنفس الكائن ويأكل ويشرب ويدب على الأرض؟. هل هذه حياة أم كينونة. أليست الحياة الحقيقة أن يحول الكائن كينونته إلى إرادة والإرادة إلى فعل وفكر ليفكر ويحمي صغاره ويبني لهم المستقبل؟.
الحياة بهذه المعاني غائبة في العالم العربي بكامله منذ مئات السنين والناس أموات أو كأنهم. عندما تسأل العدد الذي تختاره أنت من أفراد الشعوب الأخرى، كيف يرى عرب الحاضر، هل هم معدودون على الشعوب الشجاعة أم الجبانه ؟، ماهي الإجابة التي تتوقعها غير تلك التي تتمناها؟. صدقني أنني سألت ولم تفاجئني الإجابات. سألت زملاء هنودا ً وفلبينيين مقيمين معنا وسألت غربيين في المطاعم والمقاهي في الخارج، وكانت الإجابات متوافقه، أن عرب الحاضر جبناء. في مطعم سألت جليس طاولة نمساوي نفس السؤال فقال لي، كنا نعدكم من أشجع الشعوب ولكن يبدو أننا كنا على خطأ. سألته كيف ؟، فأجاب لأن الهروب من الديار بهذه الأعداد الضخمة ليست شجاعة، بل من أوضح أنواع الجبن. قلت له ولكن الباقين يقاتلون فسألني يقاتلون من ؟، إنهم يقاتلون بعضهم وليس مع بعضهم وهذه ليست شجاعة. استقواء بعضك على بعضك نذالة وجبن، لأنك هكذا تنفس الغضب والإحباط على من هو أضعف منك. واضح أن النمساوي كان يقصد تلك الفصائل السورية والعراقية المتقاتلة فيما بينها ويقصد ساسة الحكم في سوريا والعراق الذين يستقوون بالأجانب. لم أرد الاستسلام لتهمة الجبن بالجملة فهربت إلى الأمام وجاء الجواب صادما ً أكثر مما توقعت. سألته ما رأيك في أولئك الإرهابيين الذين يقتلون الناس وأنفسهم بدم بارد مثل داعش وغير داعش، أليسوا شجعاناً لدرجة التهور؟. أجابني، هؤلاء هم الأجبن بين الجميع لأنهم يقتلون الضعفاء والأبرياء الذين يقعون بين أيديهم، قد يبدو لكم كعرب أنهم تجمعات من الشجعان، ولكن هؤلاء مجرد أناس تعايشوا طويلا ً مع الخوف من قمع السلطات في بلدانكم العربية، وحينما اعتقدوا أنهم انعتقوا من الخوف تصرفوا بنذالة الجبان الذي ينتقم من خوفه القديم بقتل من كان يشبهه قبل أن يتحول إلى إرهابي. قلت له كنت أعتقد أن من يفجر نفسه شجاعا ً. فأجاب بل جبان يهرب من مواجهة الحياة واستحقاقاتها. عندما غادرت المطعم ودعني قائلا ً أنت الذي سألت وأنا أجبتك.