د. محمد بن يحيى الفال
كل من رواد السينما وعشاقها يعرفون جيداً فيلماً أمريكياً شهيراً بعنوان «تمرد على السفينة باونتي»، « Mutiny on the Bounty»، وتدور أحداث الفيلم حول تمرد بحارة بريطانيين في عهد الإمبراطورية البريطانية على متن إحدى السفن الحربية التابعة للبحرية الملكية البريطانية في العام 1790. وكانت السفينة في وجهتها إلى ميناء تاهيتي في جنوب المحيط الهادي، عندما قام البحارة المتمردون والذين ضاقوا بإساءات قائدهم قبطان السفينة باختطافها والاستيلاء عليها وإنزال قبطانها مع البحارة الموالين له في زورق صغير وتركهم ليواجهوا مصيرهم في عُباب أمواج المحيط الهادي العاتية. وفي الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر المنصرم يبدو أن التاريخ أعاد نفسه، ولكن هذه المرة ليس في وسط أمواج المحيط الهادي العاتية ولكن في مقر الهيئة التشريعية للأمة الأمريكية، مجلس الكونغرس والمكون من غرفتين تشريعيتين وهما مجلس الشيوخ «The Senate» والذي تُمثّل فيه كل ولاية بممثلين بغض النظر عن كبر أو صغر الولاية، والغرفة التشريعية الأخرى مجلس نواب الأمة» House of Representatives» ويختلف تمثيل كل ولاية فيه بحسب عدد سكانها.
ففي سابقة خطيرة وغير مسبوقة وكما وصفها الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه فقد مرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانون المثير للجدل والمسمى بـ «العدالة ضد رعاة الإرهاب»،»Justice Against Sponsors of Terrorism Act» والمعروف اختصاراً بـ «JASTA».. ففي يوم الأربعاء 28 سبتمبر 2016، أقر مجلس النواب مشروع القانون بـ 348 صوتاً لصالحه و77 صوتاً ضده وذلك من أصل 284 صوتاً مطلوباً.. في حين أقر مجلس الشيوخ مشروع القانون بأغلبية مطلقة وغير مسبوقة وذلك بتصويت 97 لصالح القانون وعضو واحد فقط ضده.. وملخص القانون هو أنه يُمكّن المحاكم الأمريكية من رفع الحصانة السيادية عن الدول والأفراد في حالة توجيه اتهامات بتمويل أو مساعدة لهجوم إرهابي.. كما يضيق فعلياً وفي نطاقه المبدأ القانوني للحصانة السيادية للدول والذي أقرته اتفاقية فيينا للعام 1961 والتي تعمل بها كل دول العالم، مما يجعل من الممكن السماح بمطالبات وتعويضات مالية ضد الدول الأجنبية أو ممثليها عن حوادث الوفاة والأضرار المتراكمة الناتجة عن هجمات الإرهاب الدولي.
ويمكن قراءة التمرد الذي قام به الكونجرس بتمريره للقانون المثير للجدل من خلال مستويين، أحدهما داخلي ويتعلق بالآليات التي تم فيها تمرير القانون، ومستوى خارجي ويتعلق بردود أفعال الدول التي يمكن لها أن تتضرر بالقانون.. فعلى المستوى الداخلي، فهناك أسئلة كثيرة ومتعددة تتعلق بالطريقة التي تم بها تمرير القانون بعد أن تم رفضه من قِبل الرئيس أوباما. أول هذه الأسئلة وأكثرها شيوعاً هو لماذا صوّت أعضاء من حزب الرئيس من الحزب الديمقراطي لصالح تمرير القانون!؟ هل ما تم من تصويت من أعضاء ديمقراطيين سواء بمجلس النواب ومجلس الشيوخ ولصالح تمرير القانون وبشكل كبير هو بمثابة إعلان تمرد ضد الرئيس في مسألة هامة يراها الرئيس في غاية الحساسية وبأنها سوف تقوّض مصالح أمريكا الحيوية مع العديد من حلفائها حول العالم!؟ هذه الأسئلة تقود إلى سؤال آخر خطير جداً ومن البديهي أن يُطرح وهو: إذا كان الرئيس حقاً يرى بأن تمرير القانون هو بمثابة تهديد خطير للمصالح الأميركية، فلماذا إذاً لم يتصرف وفقاً لذلك، وذلك بالحصول على الدعم اللازم من حزبه ومن يمكن إقناعه من ممثلي الحزب الجمهوري، وذلك كما جرت العادة في الحصول على دعم مسبق للقوانين التي يُثار من حولها الكثير من الجدل والنقاش السياسي والإعلامي، وهو ما ينطبق جملة وتفصيلاً حول القانون الذي تم تمريره.. وتزداد الشكوك حول مدى الجدية في الحصول على دعم سياسي ضد تمرير القانون بمعرفة أن الرئيس أعاده مرة أخرى للكونجرس بعد أربعة أيام من نقضه له. يبدو أن الأيام فقط وحدها ستكون قادرة على الإجابة على هذه الأسئلة، مع الوضع في عين الاعتبار أن هناك حقيقتين ذواتي مغزى وهامتين، أولاهما أن تمرير القانون أظهر تعاوناً غير مسبوق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي لتمريره، والحقيقة الثانية أن قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب هو القانون الوحيد من ما مجموعه 12 قانوناً اُعترض عليها من قِبل الرئيس كان أولها قانون الميزانية للعام 2009 ولم يتم التصويت بنقضها من قبل الكونجرس.
وعلى المستوى الخارجي، فإن القانون الذي أصبح نافذاً تلقائياً وفعلياً بعد التصويت من قبل الكونجرس برفض نقض الرئيس له (الفيتو) سوف يسبب ضرراً كبيراً للمصالح الأمريكية داخل وخارج الولايات المتحدة. فمن الناحية الاقتصادية فإن الكثير من المستثمرين سواء كانوا دولاً أو أفراداً سوف يعيدون النظر في خططهم للاستثمار في الولايات المتحدة، ومن البديهي أن تسعى الدول التي لديها أصول بالتفكير بجدية لنقلهما بعيداً عن أطماع القانون الذي يرى الكثير من المراقبين غرابة تمريره خصوصاً بعد نشر الصفحات الثماني والعشرين المحجوبة من التقرير الرسمي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، والتي فندت وبشكل قطعي كل ما كان يُشاع عن تورط مضحك مثير للشفقة عن تورط المملكة في الهجمات الإجرامية.. وبعيداً عن الأطروحات السياسية الضيقة الأفق وجماعات المصالح ذات العلاقة بشركات المحاماة الكبرى والتي سعت لتمرير القانون فهناك ضوء في النفق المظلم يتمثل في عدالة وشفافية النظام القضائي الأمريكي وهو الأمل الوحيد المتبقي عملياً على الأرض الأمريكية لمواجهة القانون. حقيقة واحدة صلبة ولا غبار عليها فيها نشأت على السطح بعد تمرير القانون وهي أن النظام السياسي الأمريكي لم يكتف فقط بخيانة ثقة حلفاء أمريكا، بل زاد عليها بتعريض مصالح الأمة الأمريكية لمخاطر لا يمكن التنبؤ بنتائجها ستضر بمصالح الشعب الأمريكي، وسوف يثبت الوقت بأن تمرير القانون لم يكن سوى مناورة سياسية حمقاء محفوفة بالمخاطر.