تعد التربية الوطنية والمفاهيم المتعلقة بها من القضايا الرئيسة التي تركَّز فيها اهتمام التربويين في العصر الحاضر بسبب عدد من العوامل والمعطيات والمؤثرات التي اخترمت القيم المرتبطة بحب الوطن والانتماء إليه، ونهضت همم عدد من التربويين والباحثين والجهات المسؤولة عن التربية والتعليم في اقتراح وتبني مناهج وبرامج تعليمية متعددة في محاولة لرأب الصدع الذي ظهر في ممارسات أبناء الوطن وسلوكياتهم المنافية للقيم الوطنية المختلفة، ولا يزال الواقع يشهد بضعف قدرة تلك المناهج والبرامج والمقترحات عن تحقيق أهدافها كما يُراد لها، وقد يعود السبب في ذلك إلى قصورها في اختيار الأساليب والطرائق والاستراتيجيات المناسبة التي تسهم في إكساب المعارف والمهارات والقيم الوطنية المرغوبة، وتعزيز الجوانب الوجدانية المرتبطة بها.
ومن الأمور التي قد تغيب عن الوعي التربوي عند المهتمين بمجال التربية الوطنية أهميةُ الوقوف على بعض الظواهر والمواقف التي برزت فيها قيمة حب الوطن والانتماء إليه وتحليلها والتأمل فيها؛ لاستلهام العناصر والمؤثرات التي رسَّختْ ذلك الحُبَّ والانتماء، ثم الإفادة منها في تطوير المناهج والبرامج التعليمية التي تُعنى بالتربية الوطنية بأبعادها المختلفة.
ومن الظواهر التي يمكن الالتفات إليها والإفادة منها في ذلك: ظاهرة (الغربة المكانية عن الوطن)، فالمتتبع لهذه الظاهرة في التراث العربي على سبيل المثال، وبخاصة التراث الأدبي منه، يجد نصوصاً غزيرة، شعرية ونثرية، تنضح بالحب والانتماء الحقيقي الصادق إلى الوطن، وعند تحليل هذه الظاهرة والتأمل فيها نجد أنَّ من أبرز الأسباب التي تكمن وراء ذلك ما يمكن إرجاعه إلى نشاط أسلوب المقارنة بين الوطن الأصلي ووطن الغربة في ذهن المغترِب، مقارنة تنطلق من أبعاد متعددة: ذاتيةٍ واجتماعيةٍ وبيئيةٍ وحضاريةٍ...، ومن خلال هذه المقارنة تتعزّز عند المقارِن جوانب وجدانية ترسّخ الحب الحقيقي للوطن والانتماء إليه.
إنّ المقارنة بين الوطن وغيره من الأوطان يمكن أن يكون مُدخلاً مهماً يقوم عليه تصميم المناهج والبرامج التعليمية في مجال التربية الوطنية، ولكي تكون المقارنة ناجعة ومفيدة ينبغي أن تكون منهجية، ويُقصد بالمقارنة المنهجية تلك المقارنة التي تُبنى على أسس علمية، بحيث تتجاوز أوجه الخطأ والقصور التي تعتري المقارنات الطبيعية التي يقوم بها الفرد في حياته بصورة مستمرة، ومن أبرز أوجه القصور التي ينبغي تجاوزها لتكون المقارنة منهجية ما يأتي:
1 - المقارنة السطحية التي تقوم على المقارنة بين جوانب ظاهرة ومألوفة في الأشياء المقارَنة، ولكي نتجاوز هذه السطحية ينبغي أن نتعمق في الصفات والخصائص التي نبني المقارنة عليها، وفي دلالاتها ومعانيها، ونستخلص منها ما يمكن أن يكون بعيد الأثر عميق التأثير.
2 - محدودية المقارنة، فتكون بين جوانب محدودة، أو غير مهمة. ولكي تكون المقارنة منهجية فإننا نسعى إلى توسيع دائرة المقارنة، واستغراق الجوانب المهمة من الصفات والخصائص.
إنّ مما يميز أسلوب المقارنة أنه يعمّق فهمنا وإدراكنا للأمور، ويؤثر في الجوانب الوجدانية والانفعالية بمستوياتها المتعددة التي حددها التربويون، ابتداءً من الاستقبال والتقبَّل وإظهار الاهتمام بالأشياء ووصولاً إلى الاتسام بالقيمة المرغوبة، وهذا الجانب الوجداني له أهميته البالغة في التربية الوطنية، بالإضافة إلى أن هذا الأسلوب مألوف ومستخدم لدى الأفراد بشكل مستمر، فهو يظهر في الكثير من المواقف المختلفة في حياتنا، إذ لا يكاد يمضي يوم للفرد دون أن يمارس المقارنة بين الأشياء بصورة أو بأخرى، وبالتالي فإن تطبيقه لا يستلزم الكثير من الجهد سوى توجيهه الوجهة التي تحقق الأهداف المنشودة.
وإن مما تجدر الإشارة إليه أن بعضهم قد يرى أن المقارنة بين وطننا وغيره من الأوطان قد تأتي في بعض جوانبها بنتائج عكسية؛ إذ يتفوق غيرُنا علينا في عدد من الجوانب التي تلامس حياة المواطن وحاجاته، وهذا رأي له نصيبه من الصواب، سواء أكان تفوق غيرنا علينا بتقصير منّا، أم هي منحة من الله اقتضتها حكمته في رفع بعض الناس درجات فوق بعض، وهنا، تبرز المنهجية في المقارنة التي نحتاج إليها، وذلك بانتقاء الصفات والخصائص التي تقوم عليها المقارنة من ناحية، وتوظيف نتائج المقارنة التي تُظهر تفوق غيرنا علينا في تطوير مجتمعنا وتجاوز سلبياته من ناحية أخرى.
وختاماً، لعل هذه الأفكار تلفت انتباه المتخصصين في مناهج وطرائق تدريس الدراسات الاجتماعية، وطلاب الدكتوراه في أقسام المناهج إلى هذه الفكرة لتطويرها وتفعيلها فنجد من يتبنَّى فكرة بحثية تهدف إلى تصميم برنامج تعليمي قائم على أسلوب المقارنة المنهجية وقياس أثره في تعزيز حب الوطن والانتماء إليه لدى طلاب مراحل التعليم العام.
- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية