هل سبب الصراعات الحاصلة في مجتمعاتنا وحالة التشنجات التي نراها في إعلامنا ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من منابر هي أن كل فئة لا ترى إلا نفسها؟ هل تتمثل المشكلة التي يعيشها الأفراد في اعتقادهم أن خلاص المجتمع واستقراره لا يكون الا بامتثال أفكار الفئة التي ينتمون إليها؟ أعتقد أن الأزمة الحقيقية هي أن كل طرف يشعر أن غيره خطر عليه وعلى جماعته بل والمجتمع، ويرى في مبادئه الصلاح والنفع ليس لنفسه وحسب، بل وللمجتمع وحتى للفئات الأخرى التي يراها خطراً، ولذلك نسمع عبارات من بعض من يحسبون على فئة أو تيار معين بأن في أفكارهم الخلاص للمجتمع بكل شرائحه وأشكاله، هنا نجد أننا أمام رسالة خطيرة موجهة من قبل الفئة التي تعتقد هذا الاعتقاد إلى غيرها وهي كالتالي: بما أن الهدف العام هو المصلحة العامة وشيوع الخير للجميع، وبما أننا الأصلح لتحقيق هذا الهدف لأننا حتماً نتبع منهجاً عادلاً ومتزناً يتساوى فيه الناس وتتحقق به المصالح ويزول به الظلم، إذن فالعدالة تقتضي أننا أولى من غيرنا بتوجيه هذا البلد، وإذا بنا أمام مفهوم للعدالة يرى فيه أصحابها أن تطهير الأرض والوصول لبر الأمان لا يكون إلا بامتثال أفكارهم ومعتقداتهم، وإذا بهم يقعون في الظلم الذي وعدوا بالخلاص منه.
يبدو أن معظم الصراعات التي نعيشها هي من هذا النوع الذي لا ترى فيها الفئة إلا نفسها وتخشى غيرها، فتعمد لمهاجمته وإلغائه طلباً في مجتمع نقي آمن، فلا أمان مع المختلف، المشكلة هي عندما يعتقد الشخص بأن ما ينتمي إليه هو الحقيقة، وبناءً عليه فكل ما يخالفه خطر يهدده، هنا يصبح الظلم بكل أشكاله محتملا، كثير من الصراعات الدائرة بين طرفين من تيارين مختلفين أو طائفتين مختلفتين ليست الا لقاءً بين اثنين يحملان تلك الروح المخونة للمختلف، كل طرف على طاولة الحوار همه الانتصار والتغلب على الطرف الآخر، وكشف حقيقته الخائنة والمعادية للدين والوطن، وكأن من أمامه ليس ابن جلدته ودينه ووطنه، في كثير من الأيام جلسنا أمام التلفاز لنستمتع بحوار وطرح عقلاني ونقاش هادف، ولكننا في النهاية وبكل أسف نصاب بخيبة أمل حين يذهب جل الوقت في تبادل الشتائم وعبارات التخوين، حين يلتقي شخصان يتحاوران، فلا يعني هذا أن النقاش سينتهي حتماً بهزيمة أحدهما وانتصار الآخر، لا أدري من أخبرهم أن الأمر بهذا الشكل، القضية أبسط بكثير مما يتصورون، هي مجرد قراءة حدث أو قضية بوجهتي نظر مختلفة، كلٌ يقرأ الموقف بطريقته، ويحلله وفق المدرسة والفكر الذي ينتمي إليه، ليخرج المتابع بأفكار وآراء متعددة وشاملة حول القضية موضوع النقاش، وبعدها هو من يقرر وليس المحاور، قطعاً ليس في الحوار منتصر وخاسر وإنما فيه مستفيدان.
ثلاثة ملامح تشكل فكر الجماعة التي لا ترى إلا نفسها، أولاً: العداء للتنوع والتعددية بكل أشكالها، ثانياً: الشعور بأن العدالة تكمن في سيطرتهم وبقائهم وانتشار أفكارهم، ثالثاً: تغييب جميع الاختلافات في المجتمع لتبقى هي وحدها، إن أي جماعة أو منظمة تقوم أفكارها على هذه الأسس الثلاثة فهي في ذاتها خطر يهدد المجتمع، الجماعة التي ترى أن خلاص المجتمع لا سبيل إليه إلا بامتثال افكارها ورفض غيرها ومحاربته، هي بعينها خطرٌ وليس غيرها.
حين نصبح جماعات مختلفة لا نؤمن بحقوق بعضنا، سنصبح مجتمعاً هشاً سريع الانسياق خلف ما يثير الفتن والخلاف، وسنفقد الحكمة والرؤية في الحكم على الأحداث وفي التمييز بين التشدد والاعتدال، نحن لا ننكر أن هناك من غلبت انتماءاته الضيقةِ وطنيته، ونحن بالاجماع ضده، لكن علينا أيضاً ألا نتجاهل الوجه الآخر المعتدل في جميع الفئات والتيارات والاتجاهات الذي يعتبر الوطن وثوابته غايته وهدفه، الخوف من الآخر يصنع مجتمعاً يرى غيره متطرفاً دائماً كارهاً له، لذا فهو في سعي مستمر للخلاص منه، ويرى أن إقصاءه هو عين العدالة، لقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذا المنطق، معظم الصراعات الحاصلة في مجتمعاتنا صراعات وفق هذا المنهج، لم يعد للفئة هم سوى إبادة الفئات الأخرى وابعادها.
رغم أن التعددية مطلب وطني إلا إننا لا زلنا بعيدين عنه، في الغرب والشرق أصبح التنوع والتعددية جزءاً هاماً في سياسات الدول، الحكومات تسن القوانين لحماية التنوع ودعم التعددية، الجميع متعايشون مع بعضهم، رغم اختلاف أديانهم وأعراقهم وألوانهم تجدهم يسكنون في نفس المدينة وفي نفس الحي، يمشون في نفس الشارع ويعملون في نفس المكان، أصبحوا قريبين من بعضهم، يتحدثون ويأكلون ويناقشون قضاياهم معاً، بهذه الطريقة لم يعد الشخص فيهم بحاجة إلى وسيط ليتعرف على من حوله، ولم يعد المختلف شيئاً غامضاً بالنسبة له حتى يخشاه أو ينساق لمصادر تغذيه بما أرادت، مشكلتنا نحن أننا نلجأ إلى غيرنا لنتعرف على جماعة تعيش معنا ونعيش معها في نفس المكان والزمان، مع الأسف أننا نرفض أن نختلط بهم ونستمع اليهم وهم أيضاً يرفضون الامر نفسه، فلا نقاش ولا تعايش ولاحوار بيننا، ثم نذهب لنستقي أخبارهم ممن يسيئون إليهم وإلينا من أنفسهم وأنفسنا.
حين يعيش الإنسان في مجتمع متنوع يؤمن بالتعددية سيكتشف أن ما كان يراه خطراً يهدد وجوده واستقراره ليس إلا وهماً، سيكتشف أن نقاء المجتمع ليس في خلوه من التنوع، بل هي النقاء وبها تتحقق العدالة، لا يمكن لمجتمع يرفض التنوع أن يدعي العدالة، لأن من يرفضه حتماً سيتعامل مع الناس وفق معايير فئته ودائرته لا وفق معايير وطنه، بإدراك التنوع سيكتشف الانسان المعنى الحقيقي لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (13) سورة الحجرات، ما نحتاجه هو أن يكون تنوعنا أداة للتكامل لا للصدام، وهذا لا يكون إلا بقانون ينظم الأمر.