د. خيرية السقاف
نافذة دارة جدتها تغريها، كلما قدمت لزيارتها سحبت بسرعة كفها عن كف أمها وأسرعت إليها...
وحين تغيب عنهم فلأنها إلى هذه النافذة..!
مذ براءة المشي، وصفو المخيلة المتشكلة، والأفكار الصغيرة في الرأس كسرب العصافير تتطاير، والكلام الكثير الذي يزدحم في الصدر ولا يخرج، والأسئلة التي لا تهجد، كانت نافذة بيت جدتها المطلة على أحراش شاسعة آنذاك في تصورها، خضراء تكتظ بالشجر الممتد سعة ناظريها، ودوائر تفتح فمها عميقة تندس بين الشجيرات الممتدة، وتلك المتسلّقة جدران البيوت المتاخمة، مذ ذاك بالكاد كانت جدتها تسمح لها بالنزول لشراء الحلوى وهي تحذّرها من ورود ذلك «الحوش»، حين تدس في كفها ريالاً معدنياً، وتودع كفها الآخر بيده ذلك الإفريقي النحيل الذي تفرح حين تراه، لأنه الوحيد الذي يجلب لها في كل مرة تزور فيها جدتها أعواد القصب الطويلة، ويجلس جوار باب الدار يقطعها لها بمشرط يدسه في جيبه..
كانت غالباً ما تنزلق خارج البيت تركض نحو «الحوش» ذاته المغطى بالخضرة، جوار بيت جدتها، الذي تطل عليه النافذة العلوية، الذي تتوق لمعرفة ما بداخل الحفر الفاغرة أفواهها بين الشجر المكتظ على الأرض، الشجر الذي لا يقف، وهي لا تعرف شجراً منبسطاً يتمدّد على الأرض في بيتها، ففي بيتها الأشجار هناك واقفة كلها، تساقط منها ثمارها فتجمع حبات الجوافة، والليمون، والبرتقال، والفل، والياسمين، والنرجس، بل حبات الموز الذي بالكاد تحملها معاً، لكن خضرة «حوش» جيران جدتها لا شجر واقفاً فيها، بيد أن أرضه خضراء تتخضّب ببعض صفرة عند الحواف، أو حيث لا تدري لماذا،
لكنها دوماً تجد بابه الضخم المرتفع مغلقاً وقد علته الأغبرة وكلح لونه الخشبي، واختفت معالم الزخرفة التي فيه، وحين تقترب منه فإن المارين في المنعطف الصغير إليه يلقون إليها بجملة واحدة، «لا ارجعي للبيت»، وبين كلامهم تسمع مفردات لا تعي معناها، «بئر» «حفرة»، حنظل»، بل كثيراً ما أخافوها فقالوا: «يسكنه الجن»، وكانت في بعض أفكارها تحسب أن الجن من يزرعونه تماماً كما تفعل أمها وهي تزرع في بيتهم..!
كبرت، عرفت أن النافذة في بيت جدتها تطل على أرض بيت جيران انقض ولم يقم، بعد أن هجروه ولم يعودوا،
داهمه الحنظل وامتد، غطى على فوهة بئرين أخفاهما إلا عمّن يعرف موقعهما، ..
فالباب الموصد كان حاجزاً عن المارين كي لا يقعوا، وعن الصغار كي لا يكون الحنظل بطيخاً صغيراً بين أيديهم، والبئرين خاتمة..
الآن المشهد ذاته يعود إليها..!!
يعود «حوش» جيران جدتها، والحنظل البشري يمتد شجره، تشتد خضرته،
بعد أن نما، وينمو، وتغلغل تحت أوراقه المتلاحمة، غطى، ويغطي على الحفر الكثيرة التي يواريها..!!
وأشرعت الأبواب التي كانت تخفيه..
أُكِل الحنظلُ، وتم تجرع مرارته..
فالنافذة لم تكن مفتوحة كما ينبغي..!!
وإن الخضرة أيضاً قد تكون كمينا ..!