علي الصراف
يسعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى أن يترك خلفه إرثا، يحفظ له مكانا لائقا في التاريخ.
لا يتعلق الأمر بسجل ما قام به في ثمانية أعوام، ولكنه يتعلق بما لم يقم به أيضا.
تقتضي الأمانة القول إن الرئيس أوباما انتشل بلاده من أزمة اقتصادية كادت أن تطيح بنظام التعاملات المصرفية في العالم بأسره. ونجح في غضون أقل من سنتين في أن يعيد الاقتصاد الأميركي إلى سكة النمو وتجاوز أزمة الرهون العقارية، واختناقات النظام المالي برمته.
اليوم، فإن معدلات البطالة عند حدودها الدنيا (نحو 5% فقط)، والنمو السنوي يتراوح بين 2-3%.
الوجه الآخر، لهذه الحقيقة، هو أن إدارة الرئيس أوباما موّلت الخروج من هذه الأزمة بخلق أزمة أخرى، وهو ما سوف يطبع كل «إنجاز» آخر حققته.
إذ ورثت هذه الإدارة دينا عاما يبلغ نحو 12 تريليون دولار. وبعد 8 سنوات، بلغ حجم هذا الدين 19 تريليون دولار. وكأنها اشترت حلا، بحل أخطر منه. ذلك أن هذا الدين يتجاوز المئة بالمئة من الناتج الإجمالي للولايات المتحدة البالغ نحو 18 تريليون دولار. وهو ما يعني أن كلفة الديون يمكن أن تستهلك كل قيمة النمو، إذا ما بدأت الفوائد بالارتفاع، وإذا ما فرض التضخم ضغوطه على الأسعار. وهذا مأزق قائم وقادم!
هناك من يقول إن جائزة نوبل للسلام التي حاز عليها الرئيس أوباما قبل أن يقوم بالكثير من العمل، كانت في الواقع قيدا أكثر منها تقديرا.
مع ذلك، فقد كان وجود رجل أسود على رأس السلطة في الولايات المتحدة، دلالة إنسانية كافية على ما يتعين أن يتغير في النظرة العنصرية للغرب بوجه عام. وهذه جائزة سلام كان يجب أن يحصل عليها الناخبون الأمريكيون، قبل أن يبدو أن العنصرية يمكن أن تعود لترتفع.
تولى أوباما الرئاسة بينما كان عالم الولايات المتحدة يقف على حافة هاوية عسكرية واقتصادية ودبلوماسية في آن معا. وكان عليه النهوض بالكثير من الأفعال بالقليل من العثرات، لا العكس. فماذا حصل؟
أولا، تبنى الرئيس أوباما سياسة تقضي بالانسحاب من العراق. ولكنه فعل ذلك «بأي ثمن». والثمن إنما دفعه العراقيون الذين تولت إيران حكمهم بأيدي مجموعات طائفية. كما دفعته كل دول المنطقة الأخرى التي صارت تواجه تهديدات الإرهاب الذي نشأ كرد فعل على أعمال الإرهاب المنظم والطويل الأمد والبالغ الوحشية لوكلاء المشروع الطائفي الإيراني.
ثانيا، تفاوض سرا مع إيران لتعطيل جانب من برنامجها النووي، في ظل قناعة راسخة لإدارته، بإن هذا هو السبيل الأمثل لحماية إسرائيل. ولكنه ترك التهديدات الأخرى التي تشكلها إيران على باقي دول المنطقة. بل أكثر من ذلك، ساعد إيران، ضمنا، على تصعيد تدخلاتها، ووفر لها التمويل لتحويل تلك التدخلات إلى حرب ضارية تجري ضد شعوب ثلاث دول في المنطقة: العراق، سوريا، واليمن.
ثالثا، أظهر الرئيس أوباما ميلا تصالحيا مع روسيا، وأرسى قواعد مهمة لتحاشي العودة إلى بيئة «الحرب الباردة»، ولكنه ترك من الثغرات في هذا الميل، ما سمح لروسيا في النهاية أن تُنشئ وضعا في القرم وشرق أوكرانيا، يثير الكثير من التساؤلات عما إذا كان مهادنا إلى درجة تكفي لتهديد الأمن الأوروبي، والاستقرار الدولي برمته.
رابعا، المساعي الدبلوماسية الحثيثة من أجل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين انتهت إلى فشل ذريع. ولكنه كافأ في آخرها إسرائيل بحزمة مساعدات مجانية تبلغ 38 مليار دولار تمتد لعشر سنوات، تاركا لمن يأتي بعده أن يضيف إليها ما يضيف.
خامسا، عندما وضع «خطا أحمر»، بأن الولايات المتحدة سوف تتدخل بالقوة إذا ما استخدم النظام في سوريا أسلحة كيميائية ضد شعبه، فإنه «باع» اختراق هذا «الخط» لصالح أمن إسرائيل تاركا أمرين: شعب مظلوم يدفع الثمن، وروسيا تتدخل بالقوة لصالح ذلك النظام، بينما ظلت الأسلحة الكيميائية تُستخدم!
هذا هو الإرث. وهناك من يقول: بالسماح لإيران بأن تتحول إلى قوة عدوان، وبمئات الآلاف ممن قتلوا، وبالملايين ممن هُجروا، وبالإرهاب الذي ما يزال مستعرا، وبالعجز عن رؤية الرابط بين الطائفية والإرهاب، وبمكافأة إسرائيل على الفشل، وبالتهديد القائم لأمن أوروبا، فإن الإرث الذي سيتركه الرئيس أوباما لمَنْ يخلفه هو في الواقع «إرث من الجحيم».
إنه كذلك، ليس بما فعل، ولكن بما ترك!