للأب في حياة كل منّا أثره الذي لا يُمحى مع الأيام. وكعادة الإنسان، لا يدرك قيمة الأشخاص المحيطين به أو الأشياء التي يملكها إلا عندما يفقدهم أو يفقدها، هكذا لا ندرك قيمة الأب في حياتنا إلا عندما نفقده. وعندما نفقده يلازمنا حنينٌ إليه لا ينقطع. والحقيقة تقول إنه لا يدرك الشوق إلا من يكابده، ولا يعاني الحنين إلا من يعاني الفقد. ومن عايش أباه وتشرَّب منه لا ينفكّ يحنّ إليه ويتذكره ولا ينساه.
كان الحوار قصيراً بيني وبين أبي لأن الموت اختطفه سريعاً.. لم يمهلني حتى أتشبَّع منه، ولم يمهله حتى يراني فتى غضّاً ورجلاً صلبًا. وحال الوعي الغض دون تمام استيعابي لأبي. ولقد كانت قليلةً، تلك السويعات التي كانت تجمعني به، وكان الوقت شحيحاً؛ فلم يظهر كرمه لي، بالجلوس بين يديه وملىء عيني منه، إلا في أيام مرضه الأخير.
لكم كنت اشتهي أن أمشي معه في نزهةٍ، يدي في يديه، كما كان شوقي يقول عن أبيه:
وتمشَّينا يدي في يده
من رآنا قال عنا (أخوي)
كان العمل يخطفه مني ومنّا، نحن أبناءه. ولم أدرك معنى الأبوّة وعظم مسؤوليتها إلا عندما صرت أبّاً. وكغيره من الآباء، ذوي العيال، كان يلهث خلف لقمة العيش يفتش عنها في شقوق الصبر، وبين أشواك التعب. يغدو هنا.. ويروحُ هناك ليوفرَ، رغيف الخبز، والملبسَ، والدفترَ والقلمَ. ويظل يطارد لقمة العيش، هنا وهناك، فيظفر بها حيناً، وتهرب منه أحياناً. ويأخذه اللهاث والعدو بعيداً عنّا، هناك في رحابة العاصمة البعيدة حيث الضجيج والصخب، ونحن في هدوء الريف الوديع، فلا نراه إلا فجأة في صبيحة عيد يطل علينا في رفقته، ليكون للعيد وجهان، وجهه، ووجه أبي.
أليمةٌ هي حياة الكادحين من الناس، يكدِّون كدّاً، هكذا يراها البعض، وقد يرى أصحابها أن السعادة في الكدح، والكدّ، وأن قطرات العرق ترياق الداء ومكمن الدواء والرجاء. وربما كانت نظرتهم هذه هي الحقيقة بعينها.
لم يكن أبي ثريّاً... لكنه كان غنيّاً
لم يكن أبي يملكُ... لكنه كان يعطي
لم يكن أبي يقول لا... إذا كان يستطيع
طيباً.. هكذا تفصح قسمات وجهه وتكشف الطباع
دائماً بكانا سماً... وإن خلا جيبه من النقود
كان يؤمن أن قلبه ليس في جيبه
كان ودوداً، كثير الصحاب، هؤلاء الذين تبدّدوا بعد مماته
كان خدوماً.. حتى لـ «طوب الأرض» كما يُقال.
لم يكن أبي ملاكاً، ولم يكن شيطاناً، كان أبي إنساناً
لم يكن يفكر، سوى في يومه، يتمتع بالصبح ما دام فيه، كما لم يسعفه تفكيره، أو ذات يده، أو عمره، في أن يفكر في الأيام الآتية، ومستقبل أولاده، حتى عندما عُرضت عليه قطعة أرض بجوار منزلنا ترفَّع عن شرائها، وندمنا من بعده على ترفعه، ولم يمهله عمره أن يندم. ولم يفكر أن يشترى منزلاً في العاصمة ليكون ملاذاً للأسرة، أو لابن من أبنائه في المستقبل، ربما لأنه كان يفكر دائما في العودة إلى بلدته، وهو ما فعله فيما بعد بنقل عمله إلى محل ميلاده، أو ربما حال ضيق ذات اليد بينه وبين هذا الترف، هكذا أفكر الآن، بينما احتفظ أبي بالإجابة الصحيحة عن تساؤلي ولم يبدها لي.
كان، رحمة الله عليه، له طريقة في المداعبة قائمة على أن ينعتنا، نحن أبناءه، بأسماءٍ لأشياء أو أشخاص، بينما كان ينعتني بالشيخ طه، طه حسين، ربما تيمناً أن أصير مثل طه حسين، الذي كنا نشاهد مسلسل تلفزيوني عنه، في تلك الأيام، ونحن نبكي أمام الشاشة وتنهمر دموعنا لمعاناة ذلك الطفل البائس المطفىء العينين، الذي يتعثر في كل شيء. أوقن أن أبي لم يكن يتمنى لي ما كان يعاني الطفل طه من ألم ومعاناة وظلمة، وإنما كان يتمنى أن أصل إلى ما وصل له طه حسين من مكانة وتقدير.
وقد كان يأمل أن يرتقي أبناؤه لمرتبة الأطباء الذين كان يراهم في المستشفى التي يعمل بها. ولكن دائماً دون الأماني سدودٌ وقيودٌ، وللأحلام أقدامٌ تمشي عليها، وسواعد تحفر الصخر في طريقها، هكذا تعلمنا من الحياة.. فليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وأن الدنيا كما يقول شوقي: يجب أن «تُؤخذ غلابا».. نغالبها وتغالبنا.
اشتّد عليه المرض في أواخر أيامه، وكان المنزل يمتلىء بالزوار ليفرّغ ما فيه، ثم يعود فيمتلىء من جديد. وكان صباح.. أن استيقظت على بكاء لأمي، وصراخ لأختي، ونحيب لعمتي، وكانوا قد جلسوا بجواره طوال الليل، لألقاه مسجى يظهر وجهه مبتسماً كأنما استراح من ملازمة المرض أو سعد بملاقاة ربه. لقد كنت في تلك اللحظة أود أن أصرخ وأقول، كما قال سميح القاسم:
أبي لا تدعني
قلبك في جسدي موضعه
أتفتح أبواب حزني
وتغمض عينيك عني
أبي لا تدعني
ترَكَنا أبي وارتحل، كما ترتحل السحبُ، وبلا رجعة، إلى فضاءٍ لا متناه. ويوماً بعد يوم، ينأى بعيداً وننأى عنه. وبعد وفاته، عرفت معنى أن تكون طفلاً يتيماً، فبعد وفاته، تذمرتُ يوماً على خدشٍ في ردائي فنهرتني أختي الكبيرة بأننا اليوم صرنا أيتاماً. لم أكن أعي معنى الكلمة بعد، ولم أكن قد قرأت بعد مرثية شوقي في أبيه عندما قال «أنا من مات ومن مات أنا» لقلت ساعتها أن بموت أبي ربما ماتت معه كل الأشياء الجميلة، واكتست السماء بسحب داكنة، وكذلك المنزل، وكان الغداءُ والعشاءُ بدونه مغموساً بالحزن، فكان طعاماً للصمت والحزن. وكانت جدتي، تلك التي لا تبرح جلستها بالباب تناجي طيف أبي صباحَ مساء، تحتويني بين أذرعها وتواصل البكاء. وإذا هطلت أمطار الشتاء كثيفة ونالت من بيتنا الطيني، وصارت تنهش فيه، بكت أختي وخشيت أن ينهار المنزل!!، وقالت: يا أبي.. أين أنت؟!
كان أبي.. جداراً به نحتمي، وحائطَ صدٍ به نتقي ونواجه كل الضربات المصوبة تجاهنا. فكأنما بموته انهارت خطوط دفاعاتنا، وصرنا عرضة لعوامل التعرية والأنواء والعواصف، وتغير وجه الحياة وتغيرت الأشياء، فكما يقول أدونيس:»لأن أبي مات.. أجدب حقلٌ وماتت سنونو».
دائما أقول إن الشعراء هم مكمن الحس في المجتمع، وأنهم المستقبلات الحسية فيه، صدق شوقي «أنتم الناس أيها الشعراء»،.ولكم كان صلاح عبد الصبور معبِّراً في وصف حالةٍ كتلك، حين قال:
جُنَّت الريحُ على نافذتي.. وفي مسائي
فتذكرتُ أبي
وشكت أمي من علّتها ذات فجرٍ
فتذكرت أبي
عضّ الكلبُ أخي... وهو في الحقلِ يقود الماشية
فبكينا حين نادى.. يا أبي!!
ونرى طلعته بين الضباب
وأرى الموتَ فأعوي.. يا أبي!!
لم يكن لأسرة، عددها لا بأس به، وجميع الأبناء في مراحل التعليم المختلفة، وبعضهم لم يلتحق بعد بالتعليم، ليس لها دخل غير معاش حكومي زهيد، سوى أن تجاهد في سبيل البقاء، وأن تقف على قدميها في حياة تدفعها يميناً ويساراً كريشة في الهواء، وكسفينة تتلاقفها الأمواج في بحر هائج. ولم يكن ربان هذه السفينة سوى سيدة عظيمة هي.. أمي، متعها الله بالصحة والعافية، وطول عمرٍ في مرضاته، تلك المرأة الريفية غير المتعلمة التي اختارها الله لتكون ربان هذه السفينة، تحاول جاهدة أن تصل بها إلى برٍ آمن، ومرفأً سالم.تخشع عيني وتدمع، وأطأطئ رأسي خجلاً كلما ذكرت أمي، تنحني الكلمات وتخلع الحروف قبعاتها إجلالاً لأمي.
وكان علينا أن نتحمل معها، ونشاركها هذه المسئولية، فنخرج للعمل، فالغريق لا بد أن يمد يده ليمسك باليد التي تمتد إليه لتنقذه. مات أبي ويوماً بعد يوم تأخذنا الحياة بعيداً عنه، وتشغلنا عنه، فننساه، ويصير طيفاً شحيح المزار. فبعد زيارة له في المنام يرتدي ثوباً ناصع البياض، وأخرى يجلس فيها في حقول خضراء من زرع الفول السوداني الأخضر، تشحُّ الزيارة حتى في المنام. ورغم ابتعاده عنَّا، وبعدنا عنه، هذا البعد الحتمي، اللا نهائي، يطلُّ أبي علي من وقت لآخر كذكرى زائرة. أحياناً كثيرة أتذكره، فكلما أداعب ولدي أو أنصحه أتذكر أبي، وعندما تأخذه رعونة الصبا والشباب أتذكرني وأتذكر أبي. وأحيانًا كثيرة أيضاً، افتقدُ أبي، فرغم ما شببت عليه من تحمل المسؤولية، وما ألفته وتعوَّدته من توحد في مواجهة الحياة، كنت أفتقده. فكلما لطمتني الحياة، وقست علي افتقدت أبي، وكلما عضني الجوع تذكرت، عبوات الحلوى الكثيرة، وعلب البسكويت الفاخر التي كان يحضرها لنا من العاصمة. وعندما أتشوّق إلى شيء، ولا أملك الحصول عليه، أتذكر أبي، وقد لبّى تشوقنا لمشاهدة التلفاز، ذلك الصندوق الساحر في تلك الأيام، فقام بشراء تلفاز»شارب ياباني» من العاصمة وحمله إلينا. ولكم كانت فرحتنا به لا تُوصف، غير عابئين بالتعب الذي كنا نعانيه من تغيير بطاريته أسبوعياً في مشوار شاق إلى مدينة مجاورة بعد أن زحف السواد على شاشته واهترأت صورته. وكم كان جميلاً عندما يضعه على طاولة أمام الدار في وسط الشارع ليلتف حوله الجيران يتابعون ما يعرض في انبهار. وعندما كانت تضيق ذات اليد عن شراء مستلزمات دراسية، كنت أتذكر أبي، يوم أحضر مكتباً وكرسيين لشقيقي الكبيرين ليذاكرا دروسهما عليه. هذه، وغيرها من المواقف الكثير، تذكرني بأبي، وأشعر بافتقاده. وليست الحاجة، في الحقيقة، هي مبعث الافتقاد والتذّكر، يكفي أنه أبي وكان دائماً بجواري فلا أنساه. يعي هذا من فقد إباه، على كبرٍ أو على صغر، فهو لا ينفك يذكره، ويحيا معه، يقول سميح القاسم:
غبتَ عني ! هل غبتَ عني؟
هذا طيفُك الحيُ بيننا يتحرك
لم تزل تملأ العباءةُ بيتي
من ترى يملأ العباءةَ غيرك
يقول نزار قباني:
هنا ركنه.. تلك أشياؤه
تفتق عن ألف غصنٍ صبي
جريدته.. تبغه.. متكاه
كأن أبي -بعد- لم يذهبِ
وصحن الرماد.. وفنجانه
على حاله.. بعدُ لم يُشرب
ونظارتاه.. أيسلو الزجاجُ
عيوناً أشفُّ من المغربِ؟
بقاياه، في الحجرات الفساحِ
بقايا النّور على الملعبِ
أجولُ الزوايا عليه، فحيث
أمرُّ.. أمرُّ على معشبِ
أشدُّ يديه.. أميلُ عليه
أُصلّي على صدرهِ المتعبِ
بل يستشعر الإنسان الفاقد لأبيه، أن حياته بعضا من حياة أبيه، وأنه يعيش فيه، ويحمله معه أينما ذهب. يقول شوقي: «ثم جمعت حياتي وهي بعضٌ من أبي».
يقول نزار:
أبي.. يا أبي
على اسمك نمضي، فمن طيبٍ
شهي المجاني، إلى أطيب
حملتك في صحو عيني.. حتى
تهيأ للناس أني أبي
أشيلك حتى بنبرة صوتي
فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟
صحيح إن الابن امتدادٌ لأبيه، إنه يحمل من أبيه إرثاً (ميراثاً غير مادي) وإن لم يحمل منه ورث (ميراثاً مادي).
وتمر الأيام، ولانشغل كثيراً بأبنائي، ومشاغل الحياة العصرية المعقدة، ويظل الحنين الذي ينقطع إلى أبي يشدّني إليه وإلى أيامه الهادئة الوديعة، فأردد في نفسي دائما ليتنى بعضاً منها وبعضاً من أبي. فيا من لم تفقدوا آباءكم، تشبَّعوا منهم.. وقبلوا رؤوسهم قبلما يرحلون، فإن رحيلهم بلا عودة. رحم الله أبي.. ورحم الله موتانا وموتاكم وموتى المسلمين جميعًا.
- د. محمد أبو الفتوح غنيم