د. جاسر الحربش
من غير المتوقع أن يتحول المواطن السعودي من مستهلك كسول مبذر إلى منتج نشيط مقتصد قبل أن تعضه الضرورة، وتكشر في وجهه الحاجة. من الواضح أن عقود الطفرة السابقة دمَّرت حضارة اقتصادية، تراكمت خبراتها عبر آلاف السنين. المقصود بحضارة اقتصادية عقلية التعامل مع الظروف الإنتاجية والاستهلاكية في جزيرة العرب المحرومة من الأنهار والغابات والأمطار الموسمية. هلكت شعوب من الجوع، كانت إمكانياتها الإنتاجية تحت أقدامها، لكن إنسان هذه الصحراء برمالها وجبالها قاوم وصمد لآلاف السنين. طفرة اقتصادية حمقاء من خمسة عقود مسحت ذاكرة تاريخية اقتصادية من أقدم العصور؛ لذلك يجب أن نرحب ونتفاءل بالتقشف إن كان يعني استعادة الذاكرة القديمة.
لتذهب عقليات الطفرة إلى غير رجعة، وخصوصًا تلك التي تمرغت في مراعي الطفرة بدون مقابل ولا مبرر، ومرحبًا بالتقشف الإيجابي الذي يعتمد بالقدم الأقوى على المستفيدين الأوائل من الطفرة، وبوطأة أخف على من عبر الطفرة بالاكتفاء والستر. الجمل الصحراوي عندما تتأذى إحدى ساقيه يقف على الساق السليمة، ويعرج برفق على المجروحة لحفظ التوازن حتى تشفى.
نحن مقبلون على سنين (يعلم الله وحده عددها) نحتاج فيها إلى توزيع مسؤوليات العبور بحكمة وعدالة وتضحيات. مداخيل النفط تهبط، والمنافسة على الأسواق فوضوية، وحرب الجنوب فرضها علينا عدو هدفه الاستنزاف والتوسع، وبالأمس صوّت المجلسان التشريعيان في أمريكا بأغلبية على قانون جاستا الذي سنكون أول المضطرين إزاءه للدفاع عن النفس أمام المحاكم الأمريكية، وسوف نضطر إلى دفع أموال طائلة للمحامين للدفع ببراءتنا، وهذه كلها أوضاع توجب التقشف.
يبقى الإدراك والاعتراف بأن التقشف لن يفيد بالوقوف على ساق واحدة، وإنما بالموازنة بين الساقين، ومن المؤكد أن سياسة الدولة تبني على ذلك. صاحب الساق الأقوى التي يجب الاعتماد عليها هو من حصل على المال والرفاه والنعيم بدون مقابل، يليه من حصل على ذلك مقابل الفساد والارتشاء والإثراء من الباطن، ثم يأتي أخيرًا من حصل على ما يستحقه من الثروة مقابل الأداء الجيد والإخلاص؛ لأن هذا أيضًا عليه حق الوطن والتكافل. صاحب الساق النحيلة مطلوب منه حفظ التوازن فقط؛ ليبقى الجمل العربي واقفًا حتى تشفى الساق الجريحة. للناس عيون ترى، وآذان تسمع، وعقول تميز ما هي أولويات التقشف. والله في عون المواطن ما دام في عون وطنه.