د.عبدالله الغذامي
كنتُ وما زلت أشعر بأن هناك سرًّا خفيًّا يختبئ خلف إعلاني موت النقد الأدبي عام 1995 في تونس، وهو موقف علمي معرفي، شرحته في كتابي (النقد الثقافي)، ولكني كنتُ أحس بأن شيئًا آخر دفعني لهذا، وأظنني اكتشفته حين ذهبت للنادي الأدبي بالرياض (27 / 9 / 2016)، في ليلة تذكرت فيها قصة صارت لي مع الشيخ عبد الله بن إدريس عام 1992 بعد أن صرحت في الصحف حينها بأنه حان أن نقرأ الفاتحة على الأندية الأدبية، وبعد يوم من تصريحي ذاك ذهبت للنادي لحضور ندوة معقودة هناك، وعلى الباب قابلت الشيخ ابن إدريس، وإذا به يفرد كلتا يديه محييًا وعاتبًا بقوله: «الله يهديك تبي تقرأ الفاتحة علينا». فرددت عليه مباشرة وقلتُ: «تراي جالس أقرأ الفاتحة الآن وأنت قاطعتني. الله يهديك». وتبادلنا الضحكات والتحيات. وها هو الوقت يمر لأدخل النادي بروح أخرى، وبوعد آخر، هو موعد المستقبل، وكانت الدعوة هذه المرة تحت مسمى الشباب. وهذه مفارقة جوهرية في حياتي الثقافية، ولحظتها تبدى لي أني كنت أهرب من شيخوخة السن والفكر، وكأني كنت أقرأ سير مَن شاخوا قبلي، وكنت أتساءل دومًا عن نهايات المعرفة حين تحاصرها سنوات العمر والمشيب، وهل سأقف مثلاً مثل موقف العقاد حين حارب الشعر الحديث، ووقف ضده في اللجان حتى لقد كان يحيله إلى لجان النثر، رافضًا وصفه بصفة الشعر. وكثيرًا ما نرى شيوخ الثقافة ينقلبون على ماضيهم الثوري، ويتحولون إلى ديناصورات تحاصر الجديد وتقمعه بصفته أقل شأنًا، وبصفته هشًّا لا يستحق البقاء.
كنتُ أخاف الوقوع بشيء من هذا، وأرى أن سِنّي كلما كبرت فهي تقربني من هذه اللحظة الانتكاسية، كما حدثت لغيري من سلفنا الثقافي؛ ولعل هذا ما جعلني دومًا أشعر بالتوتر كلما جاءني هاتف يطلب مني محاضرة في نادٍ من الأندية الأدبية، تلك التي قرأت عليها الفاتحة منذ ربع قرن، وكأني سأعود للماضي، وأحاضر للماضي؛ لذا كنت أعتذر دومًا، وكلما مر عذري أشعر بالراحة والخلاص.
ولكن جاءني هاتف كريم، يقول لي عن لقاء مع الشباب، ومقره النادي الأدبي بالرياض. وهنا لم تفتني مفردات الطلب: لقاء.. وليس محاضرة ولا ندوة.. ثم مع الشباب تحديدًا ونصًّا.. ثم إن مقره النادي.. وكلمة المقر هنا تعني أن النادي مكان وليس مؤسسة لها ذهنية تقليدية تذكرني بأني قرأتُ عليه الفاتحة قبل ربع قرن..!!!
ذهبت إلى الشباب، وكنت أعرف أني سأرى جيل تويتر، وهذا ما حدث. وما إن صعدت للمنصة حتى تقابلت الوجوه مع الوجوه، وتبدت لي القاعة بجناحين أخضرين، عن اليمين الفتيات، وعن اليسار الشباب، وتحرك القلب بكل أحاسيس الحياة.
هنا تعود الحياة لي ولذاكرتي، ويستقبلني الأمل، وصرت أرى المستقبل بجناحيه أمامي، وانطلق لساني بحديث قلبي مع جيل يريد أن يسمع قلبي، ويكشف عن شفافية روحي، فمنحتُ نفسي لهن ولهم.. ومضيت في سعادتي، وأنا أحتفل بتحرير صف القاعة الأول من الديناصورات التي كانت تحتله في كل محفل من محافل الأندية الأدبية؛ إذ يجري احتكار الصف الأول لوجوه تتكرر منذ أكثر من أربعين سنة، وتأتي لتنتظر لحظة بداية النقاش لتمسك الطابور على المنصة؛ ليعطي كل واحد منهم محاضرة أخرى، تُضاف لمحاضرة الضيف، وهكذا في كل مناسبة؛ إذ يكون الجو كله حكرًا على الصف الأول، وباقي الصفوف تظل خالية في أكثر الأحوال، أو يحتلها جيل مهمش، لا يستطيع تجاوز سلطة الصف الأول، ولا احتكاراته للمنصة.
في ليلة الشباب تلك رأيت في النادي ما كنت أتمناه على مدى عقود، وكنت أظنني لن أراه، وهذا ما كان يسد نفسي عن الأندية وعن رسميات الأندية وأجواء الأندية. لقد حضر جيل تويتر، ورأيتهم مع كل مداخلة، ومع التحاور أثناء اللقاء أو عقبه في الممرات، حتى لحظة ركوب سيارتي، وكل اسم ينطقه صاحبه أو صاحبته يتلوه تعليق مني، يحيل إلى تغريدات مرت بيننا من قبل.
حضر جيل تويتر، وهو الجيل الذي سيرسم مستقبل الوطن ومستقبل الثقافة، ومعهم شعرتُ بأنني كنت أهرب من شيخوختي، وأخاف من سلطتها علي، ولكنَّ روحًا شبابية داخلتني مذ دخلت تويتر، وصارت بديلاً لي عن قاعة المحاضرة التي فقدتها بالتقاعد، وكنت أظن أن بفقدي قاعة الجامعة سأفقد هبوب الشباب و(ريحة المستقبل) بعد أن فارقت الطلاب، ولكن تويتر عوضتني عن هذا الفقد بأعلى منه حيوية وتفاعلية وحرية رأي وتعبيرًا، وجاءت العينة بكل بهائها في لقاء الشباب والشابات الذي جعل لمنصة النادي معنى مستقبليًّا، وما شعرتُ بأني أنا المتحدث، ولكني كنت أقرأ الوجوه من أمامي، وأسير مع نبضهم الذي صار نبضًا لي، أعطاني وقودًا شابًّا ومستقبليًّا.
شكرًا لكل شاب وشابة حضرا تلك الليلة، ومنحاني حسًّا بأن الوطن في سن الشباب، وفي وعد المستقبل.
بقي أن أشير لتغريدة كتبتها قبل أيام في حسابي، ورأيتها تتجلى لي عمليًّا في لقائي مع جيل المستقبل، وهذا نص التغريدة:
(كان بجانبي فاختفى
نظرت خلفي لم أجده
تلميذٌ آخر أرهقه المسير
ثم لمحته بعيدًا أمامي
هناك هناك
هتفت به: امض يا بني
فالدرب الآن لك
الدرب لك، لك)...
(23 / 9 / 2016)
وأرفق مع مقالتي صورتين لزهرات الرياض، وقد كن عطر اللقاء ونكهته العامرة بسمة ووعدًا تجلى في العروض التي قدمنها في مفتتح اللقاء وفي ختامه.