د. أحمد الفراج
تراوحت ردود الأفعال على إقرار قانون جاستا بين العقلانية، وتلك المتشنجة، وكان هناك تعليقات كوميدية، أضحكتنا جميعاً، فالتعليقات المتشنجة كانت تقترح علينا مجابهة أمريكا، نعم مجابهة أعتى قوى الأرض، والتي نرتبط معها بأحلاف وثيقة منذ سبعين عاماً، ويتجاوز التشنج مداه باقتراح التحالف مع دكتاتورية مثل روسيا، أو نظام شمولي مثل الصين، وهذه أطروحات تمثل الجهل بالحراك السياسي العالمي، وتتجاوز تعقيدات العلاقات الدولية، وأحابيل السياسة والساسة، فروسيا والصين دول عظمى، ولكنها لا تتكئ على نظام سياسي مؤسساتي عريق وموثوق، وهي ذاتها تدور - على الأقل اقتصاديا - في فلك الإمبراطورية الأمريكية، أما التحليلات الكوميدية فشملت ربط اقرار القانون الأمريكي بكتابات الليبراليين السعوديين، الذين تبرعوا من خلال كتاباتهم بتنوير المشرعين الأمريكيين عن خطر التطرف الديني، الذي تمثله بعض الشرائح في المملكة، وهناك من أقسم على أن حلقة من برنامج طاش عن التطرف الديني، كانت هي المسبب الرئيس لصدور قانون جاستا، وهو ما حدا بالمغردين الساخرين إلى نشر صورة لقاعة الكونجرس، مع شاشة عرض عملاقة تعرض برنامج طاش على أعضاء الكونجرس!.
قانون جاستا تم اقراره، وقد يجرى عليه تعديلات، وسيستغرق الأمر سنوات طويلة في المحاكم الأمريكية، والطريقة المثلى هي التعامل مع الأمر بواقعية، تجعل نصب عينيها أهمية التحالف مع الولايات المتحدة، كما يجب علينا الاعتراف بالتقصير الذي صاحب التعامل مع مشروع قانون جاستا، وذلك منذ أن صوت عليه مجلس الشيوخ للمرة الأولى، قبل خمسة أشهر من إقراره، فقد كان هناك وقت كاف للتحرك الواسع، على الأقل لتأجيل التصويت عليه في مجلس النواب، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، ولكن هذا لم يحدث، وهو الذي جعل الجميع يتفاجأ بتصويت مجلس النواب، قبل أسبوعين، وطالما أن القانون صدر، فإنني أكرر ما كتبت عنه كثيرا، في مقالات عدة، وهو أهمية التعيين بالكفاءة، والكفاءة فقط، في المواقع التي تتطلب حراكا وعملا جبارا، ودؤوبا، خصوصا تلك المواقع التي تتطلب معرفة عميقة، وإجادة لغات أجنبية، وتعاملا مباشرا مع مسؤولين أجانب، يتطلب التعامل معهم ادراك الفوارق الثقافية، وطريقة التعامل مع المختلف، ومهارات عمل اللوبيات الضاغطة، فالسياسي الأمريكي لا يستمد معلوماته من مقال صحفي، أو مقطع يوتوب وحسب، بل من مراكز بحوث متخصصة، يقوم عليها كبار المفكرين الغربيين، والذين يعرفون عن بلداننا، وثقافتنا، وديننا، أكثر مما نعرف، فالتعامل مع القضايا الشائكة له أصوله ودروبه، التي تتطلب العمل الدؤوب بهدوء وحنكة ومهارة، فنحن نتعامل مع أمم سبقتنا في الانطلاق نحو المستقبل بقرون.
وطالما أن الشفافية مطلوبة، بل وواجبة، في مثل هذه الظروف، فإن علينا أن نعترف بأننا نجحنا نجاحاً باهراً في مواجهة الإرهاب أمنياً. هذا، ولكن المواجهة الفكرية للإرهاب لم تتواءم مع المواجهة الأمنية، فكل فتاوى التشدد التي صدرت من بعض المحسوبين علينا، مرصودة من قبل مراكز البحوث الغربية، بل وتوسع الإعلام الأمريكي في الحديث عنها، وكذا الأمر مع بعض الأحكام القضائية الشاطحة، والتغريدات التي أثارت جدلا واسعا هنا، وبالتالي فإنه يتوجب علينا إعادة النظر في مواجهتنا الفكرية للتشدد، عن طريق غربلة المسؤولين عن الأمن الفكري، وكبح جماح الطائفيين، والمتشددين، الذين لا يمثلون إلا نسبة قليلة من المجتمع، ولكنهم كانوا، ولا يزالون حجر عثرة في الداخل، ويشوهون صورتنا في الخارج، والأمر ليس عسيرا، فعندما نختار القوي الأمين، عطفاً على الكفاءة فقط، فإن هذه هي الخطوة الأولى لإصلاح ما أفسده التشدد والتطرف، خصوصاً ما يتعلق بعلاقتنا مع العالم، وحتى لو شعرنا بالغيظ من إقرار قانون جاستا، فإن علاقتنا بأمريكا كانت، ويجب أن تظل، في منتهى الأهمية بالنسبة لنا، ولا أظن الحديث عن مجابهة أمريكا، ومقاطعة منتجاتها سيقنع أحداً، ويظل الحذر واجبا، مع أملنا أن تشهد الفترة القادمة انفراجاً لم يتوقعه أحد.