محمد بن فهد العمران
في مقالي الأخير تحدثت عن المخاطر المنتظرة التي تواجه المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية نتيجة لانخفاض العوائد الاستثمارية وللتشوهات التي فاقمت السعودة الوهمية في سوق العمل بالمملكة بعد تطبيق برنامج «نطاقات» (الذي تسببت به جهات حكومية)، وأخيرًا للتناقضات في آلية عمل هاتين المؤسستين، التي أضرتهما اليوم مع إصرار الدولة على رئاسة مجالس إدارات هاتين المؤسستين، في حين أن الدولة في واقع الأمر هي مؤتمنة على أموال المشتركين؛ وأنه - وهو المهم - قد آن الأوان لاستقلاليتهما تمامًا عن الدولة.
لا يختلف أحد على أن نضوب النفط في المملكة سيتسبب بكارثة اقتصادية على المدى الطويل إن لم ننجح في تنويع اقتصادنا؛ إذ تشير التقديرات إلى أن كلمة «المدى الطويل» هنا تعني فترة زمنية، ستتراوح بين 50 - 70 سنة على أكبر تقدير. ولأن الاشتراكات والاستثمارات في هاتين المؤسستين ذات طبيعة زمنية طويلة فإن من البديهي أن تكون استثماراتهما بعيدة تمامًا عن الاقتصاد السعودي تحوطًا لأي سيناريوهات سيئة متوقعة أو غير متوقعة في المستقبل (بالضبط كما تفعل صناديق التقاعد في الدول المصدرة للنفط). إلا أننا عندما ندقق في استثمارات هاتين المؤسستين سنجد أن غالبية هذه الاستثمارات تتركز داخل الاقتصاد السعودي!!!
ولا أدري - حقيقةً - كيف سيسددون تعويضات المشتركين بعد 50 أو 60 سنة، أو ربما قبل ذلك (على الأقل نظريًّا)؟ وعلى أي أساس؟
من جانب آخر، عندما ندقق في نوعية الأصول الاستثمارية لهما سنجد أنها على شكل أسهم وعقارات، وهي أصول ذات طبيعة غير سائلة. والحقيقة التي يجب أن نتفق عليها أنه يستحيل تسييل هذه الاستثمارات، أو لنقل إن تسييلها سيتسبب بكارثة لسوق الأسهم أو لسوق العقارات، وإن كان متدرجًا على فترة زمنية طويلة!!! وحتى نفهم هذه النقطة جيدًا يجب أن نضع في الحسبان أن التقديرات الرسمية تشير إلى أن المعاشات في التقاعد المدني تجاوزت الاشتراكات، وأن نفاد كامل الاحتياطيات سيكون عام 1458هـ، بينما في التقاعد العسكري المعاشات هي الآن قد تجاوزت كلاً من الاشتراكات وعوائد الاستثمار مجتمعتَيْن، وأن نفاد كامل الاحتياطات سيكون عام 1442هـ (أي بعد سنوات قليلة من الآن)!!
وللخروج من هذه المشكلة (أو بمعنى آخر لتأجيل ظهور هذه المشكلة الخطيرة على الملأ بوضوح)، فإن أفضل الحلول المتاحة تبدو لي بدمج المؤسسة العامة للتقاعد بالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية تحت مسمى تبني المعايير الدولية في تنظيم الأنشطة التقاعدية تحت كيان واحد، على اعتبار أن الوضع المالي للتأمينات الاجتماعية أفضل بكثير من مؤسسة التقاعد، وهذا صحيح، وإن حصل هذا فعلاً فهو يعني أنه سيتم تحميل موظفي القطاع الخاص أخطاء ارتكبها مسؤولون حكوميون، ساهموا في التأثير على مجلس إدارة المؤسسة العامة للتقاعد لاتخاذ قرارات تاريخية خاطئة، بدأنا نشاهد إرهاصاتها الأولى الآن، وسنشاهد الصورة كاملة في المستقبل القريب.
وطالما أننا سنتحدث عن المعايير الدولية في تنظيم الأنشطة التقاعدية فحتمًا سنشاهد انتقائية في تطبيق هذه المعايير الدولية؛ إذ من المتوقع أن يتم تجاهل استقلالية مجالس إدارات التأمينات الاجتماعية ومؤسسة التقاعد عن الأجهزة الحكومية تمامًا (كما تفعل بقية دول العالم)، وأن يتم تجاهل تركز استثمارات هاتين المؤسستين بعيدًا عن اقتصاد المملكة لضمان انسيابية دفع التعويضات للمستفيدين حتى بعد مرحلة نضوب النفط (كما تفعل الدول المصدرة للنفط)، وربما نشاهدهم يقدمون (دراسات مقارنة) مضحكة عن استثمارات التقاعد في دول متقدمة، ليس لديها نفط سينضب في المدى الطويل، لإثبات صحة نظريتهم في إعادة الاستثمار داخل الاقتصاد!!