د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
هذا القانون العجيب الغريب الذي أقرّه الكونجرس ويسمح للمواطنين الأمريكيين برفع الدعاوى ضدّ الدول بزعم رعاية الإرهاب (JASTA - أي قانون العدالة ضدّ رعاة الاعتداءات الإرهابية)، والمقصود به في الواقع أن يطبّق على الدولة التي ينتمي إليها جلّ الأفراد الذين نفذوا جريمة الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهي المملكة العربية السعودية. ولأن الكونجرس اطّلع على التقرير الذي أعدّته لجنة التحقيق في الجريمة، ثمّ اطلع على الثماني والعشرين صفحة التي قيل أنها حجبت لسرّيتها، وتبيّن أنه لا علاقة للحكومة السعودية لا بالمخطّطين ولا بالمنفذّين ولا بالمموّلين لهذه الجريمة فقد لجأ الواقفون وراء القانون إلى صيغة أعمّ، هي (رعاة الاعتداءات الإرهابية). ومن المحتمل أن يحقق ذلك غاية لبعض الأطراف. فمن جهة هناك خصوم المملكة، مثل إيران وإسرائيل اللّتين لكلّ منهما في أمريكا لوبي قويٌّ. ومن جهة أخرى هناك تلك المؤسسات المحترفة للفكر الاستشراقي والإمبريالي في الغرب -وأمريكا بالذات- التي تعدّ (السلفية) بؤرةً للتطرف والإرهاب، وأن ابتزاز المملكة ذات المنهج السلفيّ بتهمة رعاية الإرهاب يُضعف - وفق ظنهم - منهج المملكة ومركزها ويخدم فكرة الهيمنة على المنطقة. من ناحية أخرى فإن طرح القانون قد يكون له تأثير في انتخابات الرئاسة والكونجرس - لاسيما أن استعجال مجلس الشيوخ برفض فيتو الرئيس أوباما يؤيّد ذلك. وبصرف النظر عن هذه الاحتمالات فإن الرابح المؤكّد هم المحامون الذين سيتولّون القضايا ويكسبون الملايين من ورائها سواءً فشلت أم لم تفشل. وأمّا الخاسر المؤكّد فهم الأمريكان. مثل هذا القانون يعيد إلى الأذهان حقبة (المكّارثية) سيئة السمعة التي سادت في أمريكا في منتصف القرن الماضي، وكان قوامها التحقيق مع كل شخص يشتبه في أن له ميولاً اشتراكية، فمنطق قانون الكونجرس يشابه (اللامنطق) المكارثيّ، وهو التهمة العامة التي يتمّ تدبيسها بكل دولة يراد إضعافها أو إقصاؤها بأنها راعية للإرهابيين، ومسؤولة عن تعويض ضحايا جريمة إرهابيه لمجرد أن حفنةً من المجرمين الذين شاركوا في تنفيذها من مواطني تلك الدولة، على الرغم من أن منظمة إرهابية معادية لتلك الدولة قد دبّرتها. لا شك أن هناك نقائض قانونية لهذا القانون يعرفها المختصون، لكنّي هنا أعرض تصوّراً للخسارة التي تصيب الشعب الأمريكي نفسه لو تمّ إمضاء هذا القانون الشاذّ من قبل الكونجرس الذي انتخب الشعبعضاءه، ممّا يعني أن هذا الشعب سيرى نفسه يواجه محاكمة قانونية ومعنوية من شعوب تطلب العدالة.
= من الممكن أن يرفع مئات الآلاف من الفلسطينيين قضايا يطلبون فيها العدالة إزاء ما أصابهم من مآسٍ جرّاء أعمال الإرهاب والطرد من وطنهم وجرائم الإبادة في كفر قاسم ودير ياسين من منظمات الهاجاناة وشتيرن وغيرها (قبل 65 عاماً) وفي مخيّمات صبرا وشاتيلا خلال غزو إسرائيل للبنان عام1982)، وكان المواطنون الأمريكيون اليهود - وربما غيرهم - يتبرعون بسخاء للمنظمات اليهودية بفلسطين، وحكومتهم تسلّح جيش إسرائيل، وتضمن ما تقرضه البنوك لبناء المستوطنات.
= قتلت الولايات المتحدة زهاء ربع مليون مواطن ياباني بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي عام 1945 لتحقيق نصر سريع على الجيوش اليابانية وانتقاماً من هجوم اليابان على ميناء بيرل هاربر. ألا يحق مقاضاة الولايات المتحدة طلباً للعدالة لصالح المدنيين؟
= شنّت الولايات المتحدة ضد ثوار فيتنام في ستينيات القرن الماضي - مع أنهم لم يهاجموا أرضاً أمريكية - حرباً ضروساً أهلكت الحرث والنسل، حيث أبادت آلاف الهكتارات من الغابات والحقول برشّ مواد كيماوية سامّة، والضحايا هم المدنيّون من فلاحين وغيرهم ممّن يحق لهم رفع القضايا طلباً للعدالة.
= أطيح عام 1973 برئيس تشيلي المنتخب سلفادور أليندى ومن ثَمّ قتله بمساعدة الولايات المتحدة من خلال CIA. هل يُلام البرلمان في تشيلي لو أقرّ رفع دعوى ضدّ الولايات المتحدة ليس فقط بتهمة الرعاية بل بإشراك موظفيها في ارتكاب عمل إجرامي؟
== الحكومة الأمريكية المنتخبة من الشعب قامت عام 2003 بغزو العراق وتدمير بنيته التحتية وتسريح جيشه تماماً وتسليم العراق لهيمنة أحزاب طائفية تدعمها إيران ممّا جعل البلد مسرحاً لحرب مدمّرة طائفية؛ وذلك حصل بحجّة كاذبة (فبركتها) عمداً الاستخبارات عن وجود أسلحة دمار شامل ثبت عدم وجودها؛ ألا يحفز هذا القانون ضحايا الغزو الظالم ونتائجه على مقاضاة أمريكا؟
= وأخيراً، أليس لضحايا سرطان الرئة الذي أثبتت الأبحاث الأمريكية علاقته السببية بتدخين السجائر حقٌ في رفع قضايا ضد حكومات الدول التي ترخّص وتصدّر وتجبي ضرائب على مبيعات التبغ، ومنها الولايات المتحدة، طلباً للعدالة والتعويض كما فعل الأمريكيون ذلك ضدّ شركاتهم؟
* * *
هذه النماذج من الدعاوى المفترض إقامتها طلباً للعدالة والتعويض قد لا تلقى نجاحاً، لكنّ رفعها سيجعل من الشعب الأمريكي متهماً أمام العالَم، وسيُمنى بخسارة معنوية مؤلمة وخسارة اقتصادية فادحة من خلال فقدان الثقة وانحسار تدفق الأموال والاستثمارات إلى الولايات المتحدة.
فإن كان هذا ضرباً من هراء الخيال، فإنه لا يزيد عن هراء قانون (جاستا).
وأحب أن أختم بما قاله الأستاذ زياد الدريس في مقال بجريدة الحياة في 28 - 9 -2016 عن موضوع مختلف لكنه ينطبق: (الديموقراطيّ حين يشتهي في لحظة ما التخلّي عن قيم الديموقراطية فإنه يتحوّل إلى كائن أكثر وحشية من الدكتاتور نفسه).