د.عبد الرحمن الحبيب
يقول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز: "ليست الحكمة هي التي تصدر القانون بل السلطة".. الناطق باسم البيت الأبيض الأمريكي قال: "إن عددًا من أعضاء الكونجرس [السلطة التشريعية] لم يعلموا إلا قبل فترة قصيرة بالمثالب التي يحتويها مشروع قانون جاستا".
فما هي السيناريوهات المحتملة لتطبيق جاستا على السعودية رغم أنه لم يرد اسمها بنص هذا القانون لكنها هي المستهدفة فيه؟ يصعب التوقع لأنها سابقة خطيرة بالعلاقات الدولية تخالف القانون الدولي وحتى القوانين الأمريكية، باستثناء ما سبق أن سمح به التشريع الأمريكي ضد دول صنفها إرهابية (إيران، سوريا، كوريا الشمالية، ليبيا سابقًا) لكنها كانت مستندة على قرارات مجلس الأمن.
من الناحية التطبيقية، قانون جاستا (العدالة ضد رعاة الإرهاب) تعتريه تشوهات قانونية تشكل عوائق إجرائية لرفع الدعوى يصعب تجاوزها في القضاء الأمريكي حسب خبراء القانون الأمريكي (ستيفن فلادك، جامعة تكساس). لذا ثمة احتمالات عديدة لمسارات تطبيقه تتراوح من عدم التأثير إلى تأثير مخرب للعلاقات الدولية؛ سأستعرضها على طريقة سباق التتابع.
بداية السباق تنطلق برفع دعوى من أسر ضحايا 11 سبتمبر إلى المحكمة بالاستناد على قانون جاستا. المتوقع أن المحكمة لن تقبل الدعوى دون وجود أدلة مباشرة للاتهام وهي غير موجودة، حسب فلادك. أما إذا قبلت المحكمة تقديم الدعوى فيمكن للسعودية الاستناد لمبدأ سيادة الدولة وتدفع بعدم اختصاص المحاكم الفيدرالية حسب القانون الأمريكي. كما أن للحكومة الأمريكية الحق قانونياً في تعليق الدعاوى بمبرر الأمن القومي.
لكن إذا فشلت الحكومتان السعودية والأمريكية في ذلك، فسيصعب على المدعين إثبات الدعوى دون تحديد التهمة على مسؤولين سعوديين، فلا توجد أسماء محددة. فالصفحات الثماني والعشرين السرية التي تتضمن اسم السعودية من تقرير لجنة التحقيق بأحداث 11 سبتمبر التي أفرج عنها مؤخراً، صيغتها غامضة.. ففي إحدى أهم الجمل التي زعم البعض أنها اتهام للسعودية تذكر نصاً: "كان بعض الخاطفين المشاركين في هجمات 11/9 خلال تواجدهم في الولايات المتحدة على صلة بأشخاص ربما مرتبطين بالحكومة السعودية وحصلوا على دعم أو مساعدة". طبعا، هذه الـ "ربما" تثير السخرية قانونياً. أما عبارة "حصلوا على دعم أو مساعدة" فتلك فضفاضة قانونياً، فالمدان قبل اقترافه جريمته هو فرد عادي قد يحصل على مساعدة حتى من الحكومة الأمريكية، طالما لم يحدد نوعها. المحاكم الأمريكية ترفض نظريات الإدانة من الدرجة الثانية كالدعم والتحريض، حسب المختصين (ستيفن فلادك).
حسناً، إذا لم يكن هنالك أي دليل على تورط مسؤولين سعوديين، فلِمَ الخوف من القضاء، حسبما قال عضو في الكونجرس؟ الخوف هو مما يطلق عليه "مظنة الانحياز" فالمدعي والقاضي وهيئة المحلفين (إن وجدت) والإعلام والعواطف كلها أمريكية بينما المتهم سعودي. ثمة خوف آخر من الربط غير المباشر بدعم الإرهاب وطرق تأويله.. فهل يعد دعم الدعوة السلفية دعماً غير مباشر لهجمات سبتمبر؟
هنا، يمكن أن نصل للاحتمالات السيئة.. وهو إدانة مسؤول سعودي أو اثنين أو بالكثير ثلاثة. وفي هذه الحالة، هل يدان هؤلاء الأفراد أم تدان السعودية كلها؟ أسوأ الاحتمالات أن تدان السعودية. فهل يصدر حكم ضدها؟ تلك عقوبة جماعية، واتفاقية جنيف الرابعة تنص في مادتها الـ33: "العقاب الجماعي هو جريمة حرب"، ثم تلتها اتفاقيات دولية أكدت مبدأ المسؤولية الفردية للجرم ونفي المسؤولية الجماعية.
لنفترض، في أسوء الأسوأ، أن القاضي الأمريكي لم يلتفت لتلك الاتفاقات والمبادئ، وأدان السعودية، وأصدر حكمه بغرامات فلكية الأرقام على طريقة "البزنز" الأمريكية، فإنه لا توجد آلية قانونية تجبر السعودية على دفع هذه الغرامات حسب خبراء القانون الأمريكي (جاك غولدسميث، جامعة هارفرد)، لأن العملية برمتها مخالفة للقانون الدولي وللقوانين الداخلية في أمريكا نفسها.
لكن ماذا ستفعل السعودية إذا أصرت المحكمة الأمريكية على تطبيق قوانينها أو مصادرة الأموال السعودية هناك؟ يصعب التكهن بذلك، لكن وزير الخارجية عادل الجبير سبق أن حذر من انهيار ثقة المستثمرين السعوديين بالولايات المتحدة. وبيان الخارجية السعودية الأخير أفاد بأن قانون جاستا يشكل مصدر قلق كبير للدول التي تعترض على مبدأ إضعاف الحصانة السيادية..
تلك تصريحات دبلوماسية هادئة؛ إنما السعودية تمتلك خيارات متعددة تعتمد على سياق الأحداث وتداعياتها.. فهي تمتلك مئات المليارات في سندات الخزانة الأمريكية وأصولاً واستثمارات أخرى، وصفقات وتبادلات تجارية، واستثمارات لسعوديين في السوق الأمريكية.. كلها قد تتقلص أو تسحب. السعودية، أيضًا، لديها خيارات أخرى، كقدرتها على الحشد الخليجي والعربي والإسلامي فهي مركز العالم الإسلامي؛ ويمكنها تجميد التعاون مع أمريكا في مكافحة الإرهاب مما يضع مصالح أمريكا الاستراتيجية على المحك حسب تعبير مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق شاس فريمان.
لكن تلك أسوأ الاحتمالات وهي مضرة للطرفين. فالمتوقع أن تتصرف السعودية بعقلانية هادئة، مراقبة الإجراءات القانونية الأمريكية أو تعديلات على نص جاستا وهذا ممكن كما أقر رئيس مجلس النواب الأمريكي بول ريان بأن جاستا يحتاج لتعديلات.. القصة طويلة وبطيئة، وهي الآن في بدايتها، وينبغي عدم التسرع، فمشروع جاستا تم تقديمه عام 2009.