د.عبدالله مناع
مع عودتي إلى مدينة «ديفون» الفرنسية الصغيرة.. في جنوب شرقها، والملاصقة للحدود السويسرية ومدنها الأجمل والأشهر: إن كانت «جنيف» في جنوبها أو «زيورخ» في شمالها أو «لوزان» و»مونترو» و»كوبيه» و»نيون» بينهما.. لقضاء بعض أيام الصيف فيها.. كعادتي كل عام.. هرباً من حر «جدة»، وصيفها اللاهب في شهر أغسطس.. كنت أكثر حرصاً - هذه المرة - على الكتابة عن «ديفون» نفسها، التي تناسيتها وتناسيت الحديث عنها كثيراً وطويلاً حرجاًً.. بأكثر منه تواضعاً، هي.. ومجتمعها الصغير، الذي ربما يمثل ربعه - على الأقل - رواد أكبر وأشهر مقاهيها (مقهى شارلز) على أكبر وأشهر ميادينها: «ميدان جنيف» بنوافيره الضخمة وباقات زهوره المعلقة على أعمدة الإنارة من حولها.. التي أزعجت أصواتها أحد الزملاء - كما فاجأنا بذلك ذات ظهيرة -، فرجوناه أن يتكتم «فضيحة» انزعاجه هذه من أصوات النافورة.. ففعل مشكوراً! والمكون من خلطة إنسانية مدهشة: من الفرنسيين والأوروبيين وحملة الجنسية الفرنسية من عرب شمال أفريقيا.. من ذوي الأصول العربية من (مصر وتونس والجزائر والمغرب) إلى جانب أعداد متصاعدة من الكويتيين والسعوديين، الذين يمكن تسميتهم تجاوزاً بـ(السياح الخليجيين).. بينما هم في الحقيقة أقرب ما يكونون إلى (المقيمين الصيفيين).. الذين يمضون - بانتظام وديمومة - شهور الصيف جميعها في «ديفون»: من أواخر شهر يونيه إلى أواخر شهر سبتمبر من كل عام، وقد يضيف بعضهم زيارة أخرى إليها في الشتاء أو في الربيع.. أما ثلاثة أرباع المجتمع «الديفوني» فإنه يتمثل في رواد مقاهي (سوق الأحد) الأسبوعي.. ورواد السوق ذاته، الذي يلبي حاجات قصاده من اللحوم والأجبان والخضراوات والفواكه.. بل والملابس والأحذية والأنتيكات والذي يقام على جادة شارع «فولتير» بطولها كل أحد.. مع إغلاقه طيلة ساعات الصباح أمام السيارات، فلا يُسمح بمرورها إلا بعد الثالثة عصراً، وفي أعضاء نادي (الجولف) بأعدادهم ومعداتهم وعرباتهم الصغيرة، وهم يملأون سهول النادي وروابيه ومرتفعاته الخضراء بل ومطعمه ومقهاه، يضاف إلى كل هؤلاء.. المتقاعدون القدماء، وحديثو العهد بـ (التقاعد) من الفرنسيين والفرنسيات.. الذين اختاروا منذ عشرات السنين مدينة «ديفون» لتكون مقراً لقضاء سنوات تقاعدهم.. وهو ما أعطاها صفة المنتجعات وسمعتها.
لقد جمع كل هذه الأخلاط في «ديفون».. مناخها الرائع، وخضرتها الدائمة وأمطارها الجميلة التي لا تنقطع، وثلوجها الرحيمة في أيام الشتاء مقارنة بغيرها من المدن السويسرية والفرنسية.. وهواءها النقي الخالي من الأتربة والعوادم طوال أيام العام.. وبعض المصالح الدنيوية: كبيع وتعمير وتأجير الشقق و(الفلل).. إلى جانب قربها من مطار جنيف، وملاصقتها لذلك الحشد من المدن السويسرية.. حتى لتبدو كما لو أنها سويسرية بأكثر منها فرنسية!! لولا وجود (كشكي الحدود) الفرنسي والسويسري المتقابلين.. اللذين لا يفصل بينهما أكثر من خمسين إلى ستين متراً، واللذين يشكوان من غياب حرس الحدود.. خاصة على الجانب الفرنسي..!!
* * *
ولكن ربما كان أميز ما يميز (ديفون).. عن بقية المدن الفرنسية الصغيرة الأخرى.. أنها تقع جغرافياً على سهل من سهول جبال الألب.. المعروف فرنسياً بـ (المون بلان) أي الجبل الأبيض.. حتى ليبدو من خلفها وكأنه يحضنها، ويحرسها، ويسقيها من مياه قممه.. ويصنع من جريان مياهها نوافيرها الصغيرة والعديدة.. بل ونافورة «ديفون» الكبرى بمساحتها التي تبلغ ستة عشر كيلاً..، والتي استثمر موقعها أحد أبناء ديفون العصاميين.. عندما أقام على ضفافها مطعماً ومقهى وملاعب للأطفال باسم (الميني جولف)، لتصبح منطقة ترفيه سياحية ورياضية لكل سكان «ديفون» بأعمارهم المختلفة.. حيث يجد الكل بغيته: (الكبار) بالتريض مشياً لساعة أو أقل أو أكثر.. و(الصغار) بركوب الدراجات الرباعية والسداسية الدفع، والأصغر سناً بـ (القفز) فوق الأرض المطاطية.. أو الغوص بأقدامهم الصغيرة في غرف الكرات البلاستيكية، ليجد جميعهم بعد ذلك ما يريدونه من مأكولات أو مشروبات في مطعم الـ (ميني جولف).. من الإستيك إلى البطاطس المحمرة.. إلى البيتزا.. وبقية المعجنات.. إلى الآيس كريم والقهوة وبقية المشروبات.
* * *
بعد يوم الوصول.. والفراغ من وضع حقائب السفر والملابس في أماكنها، والتأكد من استمرارية خدمات الكهرباء والماء والهاتف والغاز.. كنت أتعجل ساعة الذهاب في اليوم التالي إلى (مقهى شارلز).. خاصة أنني تلقيت اتصالين هاتفيين من صديقين عزيزين يسألان عن أسباب تأخري وهما يستعجلان قدومي إلى المقهى وإلى (مركاز) السعوديين الذي لم يستأنف نشاطه بعد، والمقابل لـ (مركاز) الكويتيين على الجهة الأخرى من المقهى وهو الأكبر حجماً والأكثر حضوراً.. والذي يبدأ من الحادية عشرة صباحاً ولا ينتهي إلا عند الواحدة ظهراً وما بعدها أحياناً.. بينما (مركاز) السعوديين يبدأ عند الساعة الثانية عشرة ظهراً وينتهي عند الواحدة تماماً. لأجد نفسي قبل الثانية عشرة ظهراً.. أشق طريقي إلى قلب (مقهى شارلز) المكون من نصفين: نصف داخلي مسقوف ومفروش ومكيف.. لغير المدخنين، ونصف خارجي مظلل.. بمظلة حديثة تسمح بمرور الهواء، وتمنع سقوط المطر ونزوله على زبائن المقهى.. للمدخنين، لأحيي الإخوة الكويتيين، وأهنئهم بسلامة عودتهم إلى «ديفون».. متمنياً لهم صيفاً سعيداً وعودة سالمة إلى الكويت.. ورجعة أخرى إلى «ديفون» مع الصيف القادم، لأتجه بعدها إلى مقر (مركازنا).. فلم أجد أحداً من الصديقين.. ولكنني وجدت في المقابل النادل «الاكساندر»: الطالب الجامعي الذي يعمل صيفاً في مقهى شارلز، والذي جاء إلى المقهى.. لأول مرة العام الماضي.. وهو يحييني مرحباً: (بون جور) أو (نهارك سعيد)، ثم يختفي لخمس دقائق.. ليعود بعدها وهو يحمل صينية الخدمة وعليها فنجان (قهوة الإسبريسو) الذي اعتدت تناوله مكرراً كل صباح، وكوب من ماء (الحنفية)، وطبق صغير به حبات من الشيكولاتة التي اعتادت المقاهي الفرنسية - وربما الأوروبية عموماً - تقديمها.. مع فنجان (الإسبريسو)، ولكنه لم يحضر الفاتورة أو (لاديسيون).. فسألته عنها؟ فقال مبتسماً: هذه القهوة تحية من المقهى لقدومك.. فشكرته على هذه (اللفتة) إن كانت منه أو من إدارة المقهى.. لاستغرق في إعداد (غليوني) وتأمل حضور المقهى في تلك الساعة.. باحثاً عن الوجوه التي أعرفها والتي اعتدت رؤيتها في المقهى.. وقد عرفت عدداً منهم - من الفرنسيين والأوروبيين والعرب الأفارقة الذين مايزال الجزائريون منهم غاضبين.. لأن فرنسا لم تعتذر لـ(الجزائر) على سنوات احتلالها التي بلغت مائة وثلاثين عاماً.. رغم أن فرنسا - بعد استقلال الجزائر - فتحت لهم حدودها، ومنتهم جنسيتها وعاملتهم معاملة الفرنسيين من أبنائها..!! وأصبح لزاماً أخلاقياً عليَّ أن أسأل عنهم..؟!
بعد هنيهة كان (بلحاج) المغربي العربي الأصيل، والمهاجر القديم إلى فرنسا.. وحامل جنسيتها.. والمتحدث بلسانها كأنه أحد أبنائها، والمستقر في «ديفون» لأكثر من أربعين سنة.. يطل عليَّ محيياً ومرحباً.. لأدعوه لمشاركتي قهوتي، ولأتقصى أخبار رواد المقهى الذين يعرفهم.. كما أعرفهم: بادئاً.. بالسؤال عن المغني وعازف الجيتار الأيرلندي السبعيني الضاحك: المستر «ديكس» الذي يعيش ويعمل في مدينة (جكس) حيث يعزف ويغني لأعضاء نادي الجولف بها.. بينما يتردد على «ديفون» ومقهى شارلز لرؤية الأصدقاء - بين الحين والآخر -.. وربما بحثاً عن عقد اتفاقيات جديدة لحفلات غنائية يحييها خارج مدينته، وقد أفادني (بلحاج) أنه بخير.. وأنه قد يظهر في المقهى ذات يوم لتراه فهو لا ينقطع عن (ديفون)، ثم سألته عن كفيف «ديفون» الأشهر.. الذي يقطع أهم شوارع ديفون السكنية جيئة وذهاباً صباح كل يوم معتمداً فقط على (عصاه)، فقال لي: إنه لم يره منذ مدة.. وهو ما شغلني عليه وجعلني أكثر من التردد على الشارع الذي يعبره مشياً لعلي أعثر عليه؟
وهو ما كان.. إذ رأيته عائداً إلى منزله ذات يوم في نفس الشارع الذي يعبره.. لأحييه فرحاً برؤيته، وأنا أذكره باسمي ومدينتي (جدة) في المملكة العربية السعودية، ويبدو أنه فهم بعض ما قلته بالإنجليزية.. فتدفق بفرنسيته، لأقاطعه بفرنسية.. متواضعة: إنني لا أتحدث الفرنسية - ولذلك فإني أودعه.. إلا أنني قلتها له بالفرنسية: (أوريفوار مسييه)..!!
لكنني عندما سألته عن أخبار مهندس الديكور الداخلي (الإنتيريور ديزاين) المصري (المهندس محمد) الجاد والمنكب على حياته العملية والعائلية، والذي لا يحب أحاديث السياسة.. لأنها هي التي أخرجته من مصر على ما يبدو: تجمد وجه (سي بلحاج).. وهو يخبرني منكس الرأس قائلاً: (تعيش أنت).. فقد رحل منذ شهرين فجأة ودون مقدمات، لأقول له: يبدو أنه كانت هناك (مقدمات).. لم يعلم بها كل الناس، فقد كانت له ابنة - من ابنتين - من زوجته الفرنسية تعاني مما يعرف بمرض - أو حالة - (التوحد)، وقد عانى كثيراً من أجل تعليمها.. وأرهقته العناية بها نفسياً ومادياً طوال الوقت حتى مات. لقد قتلته حالة الأسى على ابنته.. وأرداه الحزن عليها..!!رحمه الله وأسكنه واسع جناته.