د. حمزة السالم
المدير يقيِّم مقدرات موظفيه القيادية والإبداعية من خلال تخارجات الموظف وحلوله للحالات الخارجة نوعاً ما عن المخطط التفصيلي، وقدراته على اتخاذ القرارات وتحمل المسئولية.
فمصير المنظمة والصناعة والاقتصاد مُعلقٌ بمقدرة الرئيس على تقييم مستوى الإبداعية والتخارج بالحلول.
والداهية المبدع يُدرك مدى عُمق دهاء وإبداعية من أمامه، ويقدر قيمتها. والبليد يرى دهاء مقابله جنوناً وإبداعيته خبالاً. ولذا الذكي المُبدع لا يحسد الذكي ولكن ينافسه إيجابياً. والبليد لا يسلم من حسده إلا الأشد بلادة منه.
والمؤسساتية، وإن كانت وسيلة حتمية تؤدي لتنظيم الأمور إلا أنها قد تنجح في تسيير الأمور بكفاءة منخفضة، لا بكفاءة عالية. ولا تستطيع المؤسساتية أن تطور منظمتها كما لا تستطيع تطوير الصناعة، إذا كان شاغلو المناصب الإدارية ، لا يحسنون - عجزاً أو قصداً أو تنظيمياً - تقييم المقدرات العقلية لموظفي المنظمة.
والشواهد المُشاهدة والمشهورة كثيرة، فمنها النموذج المؤسساتي في إدارة بريطانيا لمستعمراتها، الذي قصدت إدارته عمداً كبت المواهب القيادية الهندية واقتصرت في المناصب الإدارية على البريطانيين، الذين كانوا مؤهلين لإدراك عباقرة القياديين الهنود لإبعادهم.
وعندنا نموذج أرامكو المؤسساتي الذي استطاع مواكبة تسيير العمل بكفاءة، بتكلفة غالية الثمن، يتبين لنا بمقارنتها بالشركات النفطية الأجنبية.
ولكن مؤسساتية أرامكو عجزت عن تطوير الصناعة النفطية أو تطوير المنظمة. والتطوير غير مُسايرة الزمن. فغيرنا يطور ونحن نأخذ منه فنُساير العصر. والتطور غير التوسع، كتطور شركات البترول العالمية. تبدأ بحفارة وتنتهي بعد عقد أو عقدين وهي في أرجاء الأرض تنقب عن البترول وتحفر الآبار وتبني المحطات وتخترع الوسائل المُبتكرة الجديدة. بينما أرامكو بدأت بحفارة أمريكية وانتهت بآلاف الحفارات الأمريكية والنرويجية وغيرها، ليس بينها حفارة سعودية.
نجحت أرامكو في تسيير المهام كونها منظمة مؤسساتية، ولكنها لم تحظ بطريق آخر يكمل لها المسيرة، فلم تطور الصناعة ولم تستغن عن الخبراء والاستشاريين الأمريكان.
وذلك لأن الخبراء الأمريكان هم من وضعوا المخطط المؤسساتي بتفصيلاته الدقيقة، تماماً كما وضعوا الحفارة. وهم مازالوا كذلك من يُغذي التجديد في هذا التنظيم المؤسساتي وتفصيلاته، تماماً كما جلبنا نحن الحفارات المتقدمة من الخارج. فنحن نُساير لا نطور، بل ولا حتى نصنع.
والسعوديون هم من وضعوا المديرين في هذه المنظمة المؤسساتية. فلوم تطوير أرامكو على المديرين السعوديين لا على الأمريكان.
ولذا قد يجد الإداري السعودي الخارج من أرامكو صعوبة في قيادة منشأة أخرى. لأن هذا الإداري لم يُشارك ولم يطور المؤسساتية التي خدمته في أرامكو، ولم يفهمها.
كالضابط العسكري الذي اعتمد في السلم على النظام العسكري في قيادة الجند، تراه يفشل في قيادتهم في الحرب، لأنه لم يفهم القيادة بل استخدمها ولم يفهم التكتيكات العسكرية بل تبع تعليماتها.
وهناك نموذج بنوكنا الشبه مؤسساتي الذي استطاع تسيير العمل بكفاءة منخفضة وبأخطاء كثيرة وكبيرة، وعجز مع ذلك عن اللحاق بالصناعة ومواكبتها، فضلاً عن عجزه في تطوير الصناعة البنكية. ويكفي البنوك شاهداً على فشلها، أنها هي التاجر الوحيد الذي يشترى سلعته مجاناً ويبيعها بأسعار غالية، ومع ذلك لا تزال أرباحه في متوسط أرباح الصناعة البنكية.
وهناك نماذج متنوعة من مؤسساتية شركاتنا، ولكن كلها تدور حول النموذج المؤسساتي البريطاني في الهند، والمُقتبس من منعهم العبيد تعلُّم القراءة والكتابة، لكي لا يصبحوا مفكرين قياديين، فيتمكنوا من الاستقلالية الاقتصادية، وبالتالي الاستقلالية السيادية. حيث كان يُشنق العبد أو يُحرق إذا قرأ أو كتب. بينما تراهم يعلِّمونه فنون القيام بالأعمال الإنتاجية في الزراعة والصناعة. فلا يُعلّم إلا ماذا يفعل لينفذ الأمر، لا كيف يفعل ليفهم سبب الأمر المأمور به.